فصل: الأذان والإقامة في أذني المولود وتحنيكه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


مَولود

التّعريف

1 - المولود في اللغة‏:‏ اسم مفعول من الولادة‏,‏ والصّبي المولود يطلق عليه الوليد‏.‏ والولد‏:‏ كل ما ولده شيء‏,‏ ويطلق على الذّكر والأنثى والمثنّى والمجموع‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

السِقْط‏:‏

2 - السّقط في اللغة‏:‏ الولد ذكراً كان أو أنثى يسقط من بطن أمّه قبل تمامه‏,‏ وهو مستبين الخلق‏,‏ يقال‏:‏ سقط الولد من بطن أمّه‏,‏ ولا يقال‏:‏ وقع‏,‏ فهو سقطٌ بكسر السّين وضمّها‏,‏ وفتحها‏,‏ والكسر أسلم وأكثر‏.‏

والسّقط في الاصطلاح‏:‏ هو الولد لغير تمام‏,‏ وقيل‏:‏ الّذي يسقط من بطن أمّه ميّتاً‏.‏ والصّلة بين المولود والسّقط‏:‏ أنّ المولود يولد بعد تمام مدّة الحمل‏,‏ وأمّا السّقط فينزل قبل تمام مدّة الحمل‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالمولود

علامات حياة المولود وما يتعلّق بها من أحكام

3 - علامات حياة المولود هي كل ما دلّ على الحياة من رضاع‏,‏ أو استهلال‏,‏ أو حركة‏,‏ أو سعال‏,‏ أو تنفسٍ‏.‏

وتفصيل ذلك في ‏(‏حياة ف / 16‏,‏ واستهلال ف / 2 - 9‏,‏ وتغسيل الميّت ف / 25‏)‏‏.‏ ويترتّب على ظهور حياة المولود آثار شرعيّة عديدة أهمها‏:‏ ثبوت أهليّة الوجوب له‏.‏ ويقصد بأهليّة الوجوب‏:‏ صلاحية الإنسان لأن تكون له حقوق قبل غيره‏,‏ وعليه واجبات لغيره‏,‏ سواء أكان ذلك بنفسه أم بواسطة مَنْ له الولاية عليه‏.‏ ومناط هذه الأهليّة الحياة‏,‏ فتثبت لكلّ إنسان حي‏,‏ وتستمر له ما دام حيّاً‏,‏ فإذا توفّي زايلته‏.‏

فإذا مات يغسّل ويصلّى عليه‏,‏ وتجب فيه الدّية إن قتل‏.‏

وبولادة المولود يقع المعلّق من الطّلاق والعتاق وغيرهما بولادته‏.‏

وينظر مصطلح ‏(‏أهليّة ف / 6 وما بعدها‏)‏‏.‏

الأذان والإقامة في أذني المولود وتحنيكه

4 - ذهب الفقهاء في الجملة إلى أنّه يستحب الأذان في أذن المولود اليمنى حين يولد‏,‏ والإقامة في أذنه اليسرى‏,‏ وكذلك يستحب تحنيكه‏.‏

والتّفصيل في ‏(‏أذان ف / 51‏,‏ وتحنيك ف / 5 وما بعدها‏)‏‏.‏

حلق رأس المولود

5 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يستحب حلق رأس المولود في اليوم السّابع من ولادته والتّصدق بوزن الشّعر ذهباً أو فضّةً‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى أنّ حلق شعر المولود مباح‏.‏

والتّفصيل في ‏(‏حلق ف / 5‏)‏‏.‏

تسمية المولود

6 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يستحب تسمية المولود يوم السّابع من ولادته‏.‏ والتّفصيل في ‏(‏تسمية ف / 6 وما بعدها‏)‏‏.‏

إخراج زكاة الفطر عن المولود

7 - اتّفق الفقهاء على أنّ المسلم الّذي يولد قبل غروب شمس آخر يوم من رمضان تخرّج عنه زكاة الفطر‏.‏

أمّا من ولد بعد غروب شمس ذلك اليوم‏,‏ وقبل طلوع فجر يوم عيد الفطر‏,‏ ففي وجوب زكاة الفطر عنه تفصيل‏,‏ ينظر في ‏(‏زكاة الفطر ف / 8‏)‏‏.‏

ختان المولود

8 - اختلف الفقهاء في ختان المولود‏:‏

فذهب بعضهم إلى أنّ ختان الذّكر سنّة‏,‏ وقال آخرون‏:‏ إنّه واجب‏.‏

أمّا الأنثى فذهب بعضهم إلى أنّه واجب‏,‏ وذهب آخرون إلى أنّه مندوب‏,‏ وقال غيرهم‏:‏ إنّه مكرمة‏.‏

واختلفوا كذلك في وقت ختان المولود‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏ختان ف / 2 وما بعدها‏)‏‏.‏

تثقيب أذني المولود

9 - اختلف الشّافعيّة في تثقيب أذني المولود لأجل تعليق حليّ الذّهب ونحوه فيهما‏.‏

فقال بعضهم بالجواز‏,‏ وقال آخرون بأنّه سنّة‏,‏ وفرّق غيرهم بين الصّبيّ فحرّمه والصّبيّة فأجازه‏.‏

وقال الغزالي وغيره‏:‏ لا أدري رخصةً في تثقيب أذن الصّبيّة لأجل تعليق حليّ الذّهب‏,‏ أو نحوه فيها‏,‏ فإنّ ذلك جرح مؤلم‏,‏ ومثله موجب للقصاص‏,‏ فلا يجوز إلّا لحاجة مهمّة كالفصد والحجامة والختان‏,‏ والتّزين بالحليّ غير مهم‏,‏ فهذا وإن كان معتاداً فهو حرام والمنع منه واجب‏,‏ والاستئجار عليه غير صحيح‏,‏ والأجرة المأخوذة عليه حرام‏.‏

وذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّ تثقيب آذان البنات للزّينة جائزٌ ولا بأس به‏,‏ ويكره للصّبيان‏,‏ والفرق بينهما أنّ الأنثى محتاجة للحلية‏,‏ فثقب الأذن مصلحة في حقّها بخلاف الصّبيّ‏,‏ كما أنّ العرب في الجاهليّة كانوا يثقبون آذان الصّبية‏,‏ ولم ينكر عليهم النّبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وانظر مصطلح ‏(‏تزين ف / 18‏)‏‏.‏

إرضاع المولود إلى تمام مدّة الرّضاعة

10 - اتّفق الفقهاء على أنّه يجب إرضاع الطّفل ما دام في حاجة إليه‏.‏

واختلفوا فيمن يجب عليه ذلك وفي مدّته‏.‏

وتفصيل ذلك في ‏(‏رضاع ف / 4 وما بعدها‏)‏‏.‏

حضانة المولود

11 - حضانة المولود واجبة شرعاً‏,‏ لأنّ المحضون قد يهلك أو يتضرّر بترك الحفظ‏,‏ فيجب حفظه من الهلاك‏.‏

والتّفصيل في ‏(‏حضانة ف / 5 وما بعدها‏)‏‏.‏

نفقة المولود

12 - ذهب الفقهاء إلى وجوب نفقة الأولاد الصّغار - ذكراناً أو إناثاً - على الأب إذا كانوا فقراء وكان له ما ينفق عليهم‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏نفقة‏)‏‏.‏

تبعيّة الولد لأبويه في الدّين

13 - اتّفق الفقهاء على أنّه إذا أسلم الأب وله أولاد صغار‏,‏ فإنّ هؤلاء يحكم بإسلامهم تبعاً لأبيهم‏.‏

وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ العبرة بإسلام أحد الأبوين‏,‏ فيحكم بإسلام الصّغار بالتّبعيّة‏,‏ وقال مالك‏:‏ لا عبرة بإسلام الأمّ أو الجدّ‏.‏

وذهب الشّافعيّة إلى أنّ إسلام الجدّ وإن علا يستتبع الحكم بإسلام الأحفاد الصّغار ومن في حكمهم‏,‏ ولو كان الأب حيّاً كافراً‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في ‏(‏إسلام ف / 25‏,‏ 26‏)‏‏.‏

بول المولود

14 - اتّفق الفقهاء على أنّ الصّغير والصّغيرة إذا أكلا الطّعام وبلغا عامين فإنّ بولهما نجسٌ كنجاسة بول الكبير‏.‏

أمّا بول الصّغير والصّغيرة إذا لم يأكلا الطّعام وكانا في فترة الرّضاعة‏,‏ فعند الحنفيّة و المالكيّة أنّه كغيره من النّجاسات في وجوب التّطهر منه‏.‏

وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى التّفريق بين بول الصّغير والصّغيرة‏,‏ فبول الصّغير ينضح بالماء وبول الصّغيرة يجب غسله‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏صغر ف / 26‏)‏‏.‏

حكم ريق ولعاب المولود

15 - ذهب الفقهاء في الجملة إلى طهارة ريق الإنسان مطلقاً‏.‏

قال ابن القيّم‏:‏ ريق المولود ولعابه من المسائل الّتي تعمّ بها البلوى‏,‏ وقد علم الشّارع أنّ الطّفل يقيء كثيراً‏,‏ ولا يمكن غسل فمه‏,‏ ولا يزال ريقه يسيل على من يربّيه‏,‏ ولم يأمر الشّارع بغسل الثّياب من ذلك‏,‏ ولا منع من الصّلاة فيها‏,‏ ولا أمر بالتّحرز من ريق الطّفل‏,‏ فقالت طائفة من الفقهاء‏:‏ هذا من النّجاسة الّتي يعفى عنها للمشقّة والحاجة كطين الشّوارع‏,‏ والنّجاسة بعد الاستجمار‏,‏ ونجاسة أسفل الخفّ والحذاء بعد دلكهما بالأرض‏.‏‏.‏‏.‏ بل ريق الطّفل يطهر فمه للحاجة‏,‏ كما كان ريق الهرّة مطهّراً لفمها‏,‏ ويستدل لذلك بما ورد عن أبي قتادة رضي اللّه عنه «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصغي الإناء إلى الهرّ حتّى يشرب‏,‏ ثمّ يتوضّأ بفضله»‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏نجاسة‏)‏‏.‏

الأحكام الّتي تتعلّق بموت من استهلّ

16 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ المولود إذا خرج حيّاً واستهلّ‏,‏ بأن صرخ وظهر صوته‏,‏ أو وجد منه ما يدل على حياته بعد خروج أكثره‏,‏ فإنّه يُسمّى‏,‏ ويغسّل‏,‏ ويكفّن ويُصلّى عليه‏,‏ ويدفن‏,‏ ويرث‏,‏ ويُورث‏.‏ لما روى جابر بن عبد اللّه رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إذا استهلّ الصّبي ورث وصلّي عليه»‏,‏ ولأنّه قد ثبت له حكم الدنيا في الإسلام والميراث والدّية‏,‏ فغسل وصلّي عليه كغيره‏.‏

مِياه

التّعريف

1 - المياه في اللغة‏:‏ جمع ماء‏,‏ والماء معروف‏,‏ والهمزة فيه مبدلة من الهاء وأصله موه بالتّحريك تحوّلت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً ثمّ أبدلت الهاء همزةً‏.‏

ويجمع على أمواهٍ جمع قلّة‏,‏ وعلى مياهٍ جمع كثرة‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ الماء جسم لطيف سيّال به حياة كلّ نام‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

الطّهارة‏:‏

2 - الطّهارة في اللغة‏:‏ النّظافة‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ عبارة عن غسل أعضاء مخصوصة بصفّة مخصوصة‏.‏

والصّلة بين المياه والطّهارة أنّ المياه تكون وسيلةً للطّهارة‏.‏

أقسام المياه

يمكن تقسيم المياه باعتبار وصفها إلى أربعة أقسام‏:‏ مطلق‏,‏ ومستعمل‏,‏ ومسخّن‏,‏ ومختلط‏.‏

الماء المطلق

3 - الماء المطلق في اصطلاح الفقهاء هو ما صدق عليه اسم ماء بلا قيد‏.‏

وقيل‏:‏ الماء المطلق هو الباقي على وصف خلقته‏.‏

وقد أجمع الفقهاء على أنّ الماء المطلق طاهر في ذاته مطهّر لغيره‏.‏

وعبَّر الفقهاء عن هذا النّوع من الماء بالطّهور‏,‏ إلّا أنّهم اختلفوا في المراد بالطّهور‏.‏ فذهب الجمهور إلى أنّه الطّاهر المطهّر‏.‏

واستدلوا بما يلي‏:‏

أولاً‏:‏ أنّ لفظة طهور جاءت في لسان الشّرع للمطهّر‏,‏ ومن هذا‏:‏

أ - قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُوراً‏}‏‏.‏ فقوله‏:‏ ‏(‏طَهُوراً‏)‏ يراد به ما يتطهّر به‏,‏ يفسّر ذلك قوله تعالى ‏{‏وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ‏}‏‏,‏ فهذه الآية مفسّرة للمراد بالأولى‏.‏

ب - وما ورد عن جابر بن عبد اللّه رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «أعطيت خمساً لم يعطهنّ أحد قبلي‏:‏ نصرت بالرعب مسيرة شهر‏,‏ وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمّتي أدركته الصّلاة فليصلّ‏,‏ وأحلّت لي المغانم ولم تحلّ لأحد قبلي‏,‏ وأعطيت الشّفاعة‏,‏ وكان النّبي يبعث إلى قومه خاصّةً وبعثت إلى النّاس عامّة»‏.‏

فوجه الدّلالة من هذا الحديث ظاهرة‏,‏ إذ لو كان المراد بالطّهور الطّاهر فقط لم يكن فيه مزية‏,‏ لأنّه طاهر في حقّ كلّ أحد‏,‏ والحديث إنّما سيق لإثبات الخصوصيّة‏,‏ فقد اختصّ الرّسول صلى الله عليه وسلم وأمّته بالتّطهر بالتراب‏.‏

ج - وما رواه أنسٌ مرفوعاً‏:‏ «جعلت لي كل أرض طيّبةً مسجداً وطهوراً»‏.‏

فقد أخبر النّبي صلى الله عليه وسلم بأنّ كلّ أرض طيّبة جعلت له مسجداً وطهوراً‏,‏ والطّيّبة الطّاهرة‏,‏ فلو كان معنى طهوراً‏:‏ طاهراً للزم تحصيل الحاصل‏,‏ وتحصيل الحاصل بالنّسبة له محال‏,‏ فتعيّن أن يكون المراد به المطهّر لغيره‏.‏

د - وما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه سئل عن التّوضّؤ بماء البحر فقال‏:‏ «هو الطّهور ماؤه الحل ميتته»‏.‏

فقد أجاب النّبي صلى الله عليه وسلم بقوله هذا عن سؤالهم عن حكم التّطهر بماء البحر‏,‏ فلولا أنّهم يفهمون من الطّهور أنّه المطهّر‏,‏ لم يحصل لهم الجواب‏.‏

ثانياً‏:‏ أنّ العرب فرّقت بين اسم الفاعل وصيغة المبالغة فقالت‏:‏ قاعد لمن وجد منه القُعود‏,‏ وقَعود‏:‏ لمن يتكرّر منه ذلك‏,‏ فينبغي أن يفرّق بين الطّهور والطّاهر من حيث التّعدّي واللزوم‏,‏ فالطّهور من الأسماء المتعدّية وهو الّذي يطهّر غيره‏,‏ والطّاهر من الأسماء اللّازمة‏.‏

والمذهب عند الحنفيّة أنّ الطّهور هو الطّاهر وهو ما حكي عن الحسن البصريّ وسفيان وأبي بكر الأصمّ وابن داود‏.‏

واحتجوا بما يلي‏:‏

أوّلاً‏:‏ قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً‏}‏‏.‏

ومعلوم أنّ أهل الجنّة لا يحتاجون إلى التّطهير من حدث ولا نجسٍ‏,‏ فعلم أنّ المراد بالطّهور هو الطّاهر‏.‏

ثانياً‏:‏ قول جرير في وصف النّساء‏:‏ عذاب الثّنايا ريقهنّ طهور والرّيق لا يتطهّر به وإنّما أراد به الطّاهر‏.‏

ثالثاً‏:‏ والطّهور يفيد التّطهير من طريق المعنى وهو أنّ هذه الصّيغة للمبالغة‏,‏ فإنّ في الشّكور والغفور من المبالغة ما ليس في الغافر والشّاكر‏,‏ فلا بدّ أن يكون في الطّهور معنىً زائد ليس في الطّاهر‏,‏ ولا تكون تلك المبالغة في طهارة الماء إلّا باعتبار التّطهير لأنّ في نفس الطّهارة كلتا الصّفّتين سواء‏,‏ فتكون صفّة التّطهير له بهذا الطّريق‏,‏ لا أنّ الطّهور بمعنى المطهّر‏.‏

أنواع الماء المطلق

4 - أنواع الماء المطلق كما ذكرها الفقهاء هي‏:‏

الأوّل‏:‏ ماء السّماء أي النّازل منها‏,‏ يعني المطر‏,‏ ومنه النّدى‏,‏ والأصل فيه قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ‏}‏‏.‏

والثّاني‏:‏ ماء البحر والأصل فيه ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ «سأل رجل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول اللّه إنّا نركب البحر‏,‏ ونحمل معنا القليل من الماء‏,‏ فإن توضّأنا به عطشنا‏,‏ أفنتوضّأ من ماء البحر ‏؟‏ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ هو الطّهور ماؤه الحل ميتته»‏.‏

والثّالث‏:‏ ماء النّهر‏.‏

والرّابع‏:‏ ماء البئر والأصل فيه‏:‏ ما ورد عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه أنّه قال‏:‏ «قيل‏:‏ يا رسول اللّه‏,‏ أنتوضّأ من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنّتن» ‏"‏ أي كانت تجرفها إليها السيول من الطرق والأفنية ولا تطرح فيها قصداً ولا عمداً

فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ الماء طهور لا ينجّسه شيء»‏.‏

الخامس‏:‏ ماء العين وهو ما ينبع من الأرض‏.‏

السّادس‏:‏ ماء الثّلج وهو ما نزل من السّماء مائعاً ثمّ جمد‏,‏ أو ما يتم تجميده بالوسائل الصّناعية الحديثة‏.‏

السّابع‏:‏ ماء البرد وهو ما نزل من السّماء جامداً ثمّ ماع على الأرض‏,‏ ويسمى حب الغمام وحب المزن‏.‏

والأصل في ماء الثّلج والبرد‏:‏ حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ «كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يسكت بين التّكبير وبين القراءة إسكاتةً - قال‏:‏ أحسبه قال هنيّة -‏,‏ فقلت‏:‏ بأبي وأمّي يا رسول اللّه‏,‏ إسكاتك بين التّكبير والقراءة ما تقول ‏؟‏ قال‏:‏ أقول‏:‏ اللّهمّ باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب‏,‏ اللّهمّ نقّني من الخطايا كما ينقّى الثّوب الأبيض من الدّنس‏,‏ اللّهمّ اغسل خطاياي بالماء والثّلج والبرد»‏.‏

وقد اختلف الفقهاء في استعمال بعض أنواع الماء المطلق‏,‏ فمن قائل بالكراهة‏,‏ وآخر بعدمها‏,‏ ومن قائل بصحّتها وآخر بعدم صحّتها‏,‏ وهذه الأنواع تتمثّل فيما يلي‏:‏

أوّلاً - ماء البحر‏:‏

5 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى جواز استعمال ماء البحر في الطّهارة من الأحداث والأنجاس من غير كراهة‏,‏ وهذا هو مذهب جمهور الصّحابة والتّابعين‏.‏

يقول التّرمذي‏:‏ أكثر الفقهاء من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم منهم‏:‏ أبو بكر وعمر وابن عبّاسٍ لم يروا بأساً بماء البحر‏,‏ واستدلوا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «هو الطّهور ماؤه‏,‏ الحل ميتته»، ولأنّ مطلق اسم الماء يطلق على ماء البحر فيقع التّطهر به‏.‏

وقال النّووي‏:‏ وحكي عن عبد اللّه بن عمر وعبد اللّه بن عمرو بن العاص وسعيد بن المسيّب وابن عبد البرّ كراهة التّطهر به‏.‏

ثانياً - ماء الثّلج‏:‏

6 - لا خلاف بين الفقهاء في جواز التّطهر بماء الثّلج إذا ذاب‏.‏

وإنّما الخلاف بينهم في استعماله قبل الإذابة على ثلاثة أقوال‏:‏

القول الأوّل‏:‏ ذهب المالكيّة والحنابلة وهو المعتمد عند الحنفيّة إلى عدم جواز التّطهر بالثّلج قبل الإذابة ما لم يتقاطر ويسل على العضو‏.‏

يقول صاحب الدرّ المختار‏:‏ ‏"‏ يرفع الحدث مطلقاً بماء مطلق‏,‏ وهو ما يتبادر عند الإطلاق كماء سماء وأودية وعيون وآبار وبحار وثلج مذاب بحيث يتقاطر ‏"‏‏.‏

ويقول صاحب الشّرح الكبير‏:‏ وهو - أي الماء المطلق - ما صدق عليه اسم ماء بلا قيد وإن جمع من ندًى أو ذاب أي تميّع بعد جموده كالثّلج وهو ما ينزل مائعاً ثمّ يجمد على الأرض‏.‏

ويقول صاحب المغني‏:‏ الذّائب من الثّلج والبرد طهور‏,‏ لأنّه ماء نزل من السّماء‏,‏ وفي دعاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اللّهمّ اغسل خطاياي بالماء والثّلج والبرد»‏.‏

فإن أخذ الثّلج فمرّره على أعضائه لم تحصل الطّهارة به‏,‏ ولو ابتلّ به العضو‏,‏ لأنّ الواجب الغسل‏,‏ وأقل ذلك أن يجري الماء على العضو‏,‏ إلّا أن يكون خفيفاً فيذوّب‏,‏ ويجري ماؤه على الأعضاء فيحصل به الغسل‏,‏ فيجزئُه‏.‏

القول الثّاني‏:‏ ذهب أبو يوسف من الحنفيّة والأوزاعي إلى جواز التّطهر به وإن لم يتقاطر‏.‏ يقول الطّحطاوي‏:‏ قوله ‏"‏ بحيث يتقاطر ‏"‏ هو المعتمد وعن أبي يوسف‏:‏ يجوز وإن لم يتقاطر‏.‏

ويقول النّووي‏:‏ وحكى أصحابنا عن الأوزاعيّ جواز الوضوء به وإن لم يسل ويجزيه في المغسول والممسوح‏,‏ وهذا ضعيف أو باطل إن صحّ عنه لأنّه لا يسمّى غسلاً ولا في معناه‏.‏ القول الثّالث‏:‏ فرّق الشّافعيّة بين سيل الثّلج على العضو لشدّة حرّ وحرارة الجسم ورخاوة الثّلج‏,‏ وبين عدم سيله‏.‏ فإن سال على العضو صحّ الوضوء على الصّحيح لحصول جريان الماء على العضو‏,‏ وقيل‏:‏ لا يصح لأنّه لا يسمّى غسلاً‏,‏ حكاه جماعة منهم الماورديّ والدّارمي‏,‏ وإن لم يسل لم يصحّ بلا خلاف في المغسول‏,‏ ويصح مسح الممسوح منه وهو الرّأس والخف والجبيرة‏,‏ وهو المذهب عندهم‏.‏

ثالثاً - ماء زمزم‏:‏

7 - اختلف الفقهاء في حكم استعمال ماء زمزم في الطّهارة من الحدث أو إزالة النّجس على ثلاثة أقوال‏:‏

القول الأوّل‏:‏ ذهب الحنفيّة والشّافعيّة وأحمد في رواية وابن شعبان من المالكيّة إلى جواز استعمال ماء زمزم من غير كراهة في إزالة الأحداث‏,‏ أما في إزالة الأنجاس فيكره تشريفاً له وإكراماً‏.‏

الثّاني‏:‏ ذهب المالكيّة إلى جواز استعمال ماء زمزم من غير كراهة مطلقاً‏,‏ أي سواء أكان الاستعمال في الطّهارة من الحدث أم في إزالة النّجس‏.‏

القول الثّالث‏:‏ ذهب أحمد في رواية إلى كراهة استعماله مطلقاً أي في إزالة الحدث والنّجس لقول ابن عبّاسٍ رضي الله عنه‏:‏ «لا أحلها لمغتسل يغتسل في المسجد وهي لشارب ومتوضّئٍ حل وبل»‏.‏

رابعاً - الماء الآجن‏:‏

8 - وهو الماء الّذي تغيّر بطول مكثه في المكان من غير مخالطة شيء‏,‏ ويقرب منه الماء الآسن‏.‏

‏(‏ر‏:‏ مصطلح آجن فقرة / 1‏,‏ ومصطلح طهارة فقرة / 10‏)‏‏.‏

وذهب الفقهاء إلى جواز استعمال الماء الآجن من غير كراهة‏.‏

يقول صاحب ملتقى الأبحر من الحنفيّة‏:‏ وتجوز الطّهارة بالماء المطلق كماء السّماء والعين والبئر والأودية والبحار‏,‏ وإن غَيَّرَ طاهرٌ بعضَ أوصافه كالتراب والزّعفران والأشنان والصّابون أو أنتن بالمكث‏.‏

ويقول صاحب أقرب المسالك من المالكيّة‏:‏ ولا يضر تغير الماء بشيء تولّد منه كالسّمك والدود والطحلب ‏"‏ بفتح اللّام وضمّها ‏"‏‏,‏ وكذا إذا تغيّر الماء بطول مكثه من غير شيء ألقي فيه فإنّه لا يضر‏.‏

ويقول الرّملي الكبير من الشّافعيّة‏:‏ ولا يقال المتغيّر كثيراً بطول المكث أو بمجاور أو بما يعسر صون الماء عنه غير مطلق‏,‏ بل هو مطلق‏.‏

واستدلوا على ذلك بالنصوص المطلقة‏,‏ ولأنّه لا يمكن الاحتراز منه فأشبه بما يتعذّر صونه عنه‏.‏

ونقل عن ابن سيرين القول بكراهة استعمال الماء الآجن‏.‏

يقول صاحب بداية المجتهد‏:‏ أجمعوا على أنّ كلّ ما يغيّر الماء ممّا لا ينفك عنه غالباً أنّه لا يسلبه صفّة الطّهارة والتّطهير‏,‏ إلّا خلافاً شاذاً روي في الماء الآجن عن ابن سيرين‏.‏ ويقول النّووي‏:‏ وأمّا المتغيّر بالمكث فنقل ابن المنذر الاتّفاق على أنّه لا كراهة فيه‏,‏ إلّا ابن سيرين فكرهه‏.‏

الماء المستعمل‏:‏

اختلف الفقهاء في المراد من الماء المستعمل وحكمه وذلك على التّفصيل الآتي‏:‏

الماء المستعمل عند الحنفيّة‏:‏

9 - الماء المستعمل عند أبي حنيفة وأبي يوسف‏:‏ هو الماء الّذي أزيل به حدثٌ أو أستعمل في البدن على وجه القربة‏,‏ كالوضوء على الوضوء بنيّة التّقرب أو لإسقاط فرض‏.‏

وعند محمّد بن الحسن‏:‏ هو الماء الّذي أستعمل لإقامة قربة‏.‏

وعند زفر‏:‏ هو الماء المستعمل لإزالة الحدث‏.‏

والمذهب عند الحنفيّة‏:‏ أنّ الماء يصير مستعملاً بمجرّد انفصاله عن البدن‏.‏

ويظهر أثر هذا الخلاف عندهم في المراد من الماء المستعمل فيما يلي‏:‏

أ - إذا توضّأ بنيّة إقامة القربة نحو الصّلاة المعهودة وصلاة الجنازة ودخول المسجد ومسّ المصحف وقراءة القرآن ونحوها‏.‏

فإن كان محدثاً صار الماء مستعملاً بلا خلاف لوجود السّببين‏,‏ وهما‏:‏ إزالة الحدث وإقامة القربة‏.‏

وإن كان غير محدث يصير الماء مستعملاً عند الثّلاثة ‏"‏ أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمّد ‏"‏ لوجود إقامة القربة‏,‏ لكون الوضوء على الوضوء نور على نور‏,‏ وعند زفر‏:‏ لا يصير مستعملاً لانعدام إزالة الحدث‏.‏

ب - إذا توضّأ أو اغتسل للتّبرد‏,‏ فإن كان محدثاً صار الماء مستعملاً عند أبي حنيفة وأبي يوسف وزفر لوجود إزالة الحدث وعند محمّد‏:‏ لا يصير مستعملاً لعدم إقامة القربة‏,‏ وإن لم يكن محدثاً لا يصير مستعملاً بالاتّفاق‏.‏

ج - إذا توضّأ بالماء المقيّد كماء الورد ونحوه لا يصير مستعملاً بالاتّفاق لأنّ التّوضّؤ به مخيّر جائزٌ‏,‏ فلم يوجد إزالة الحدث ولا إقامة القربة‏.‏

د - إذا غسل الأشياء الطّاهرة من النّبات والثّمار والأواني والأحجار ونحوه‏,‏ أو غسلت المرأة يدها من العجين أو الحنّاء ونحو ذلك‏,‏ لا يصير الماء مستعملاً‏.‏

والماء المستعمل عند الحنفيّة ليس بطهور لحدث بل لخبث على الرّاجح المعتمد فإنّه يجوز إزالة النّجاسة الحقيقيّة به‏.‏

الماء المستعمل عند المالكيّة‏:‏

10 - ذهب المالكيّة إلى أنّ الماء المستعمل‏:‏

هو ما أستعمل في رفع حدث أو في إزالة حكم خبث‏,‏ وأنّ المستعمل في رفع حدث‏:‏ هو ما تقاطر من الأعضاء أو اتّصل بها أو انفصل عنها - وكان المنفصل يسيراً - أو غسل عضوه فيه‏.‏

وحكمه عندهم أنّه طاهر مطّهر لكن يكره استعماله في رفع حدث أو اغتسالاتٍ مندوبة مع وجود غيره إذا كان يسيراً‏,‏ ولا يكره على الأرجح استعماله مرّةً أخرى في إزالة النّجاسة أو غسل إناء ونحوه‏.‏

قال الدسوقيّ‏:‏ والكراهة مقيّدة بأمرين‏:‏ أن يكون ذلك الماء المستعمل قليلاً كآنيّة الوضوء والغسل‏,‏ وأن يوجد غيره‏,‏ وإلّا فلا كراهة‏,‏ كما أنّه لا كراهة إذا صبّ على الماء اليسير المستعمل ماء مطلق غير مستعمل‏,‏ فإن صبّ عليه مستعمل مثله حتّى كثر لم تنتف الكراهة لأنّ ما ثبت للأجزاء يثبت للكلّ‏,‏ واستظهر ابن عبد السّلام نفيها‏.‏

وقال الدّردير‏:‏ الماء اليسير الّذي هو قدر آنيّة الغسل فأقل المستعمل في حدث يكره استعماله في حدث بشروط ثلاثة‏:‏ أن يكون يسيراً‏,‏ وأن يكون أستعمل في رفع حدث لا حكم خبث‏,‏ وأن يكون الاستعمال الثّاني في رفع حدث‏.‏

وعلى هذا فإنّ الماء المستعمل في حكم خبث لا يكره له استعماله‏,‏ وأنّ الماء المستعمل في حدث لا يكره استعماله في حكم خبث‏,‏ والرّاجح في تعليل الكراهة أنّه مختلف في طهوريّته‏.‏ الماء المستعمل عند الشّافعيّة‏:‏

11 - الماء المستعمل عند الشّافعيّة‏:‏ هو الماء القليل المستعمل في فرض الطّهارة عن حدث كالغسلة الأولى فيه‏,‏ أو في إزالة نجسٍ عن البدن أو الثّوب‏,‏ أمّا نفل الطّهارة كالغسلة الثّانية‏,‏ والثّالثة فالأصح في الجديد أنّه طهور‏.‏

ويفرّق الشّافعيّة بين القليل الّذي لا يبلغ قلّتين‏,‏ وبين الكثير الّذي يبلغ قلّتين فأكثر‏.‏

فيرون في المذهب الجديد‏:‏ أنّ القليل من الماء المستعمل طاهر غير طهور‏,‏ فلا يرفع حدثاً ولا يزيل نجساً لأنّ السّلف الصّالح كانوا لا يحترزون عنه ولا عمّا يتقاطر عليهم منه‏.‏

فعن جابر رضي الله عنه قال‏:‏ «جاء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا مريضٌ لا أعقل فتوضّأ وصبّ عليّ من وضوئه فعقلت»‏.‏

ولأنّ السّلف الصّالح - مع قلّة مياههم - لم يجمعوا الماء المستعمل للاستعمال ثانياً بل انتقلوا إلى التّيمم‏,‏ كما لم يجمعوه للشّرب لأنّه مستقذر‏.‏

فإن جمع الماء المستعمل فبلغ قلّتين فطهور على الأصحّ‏.‏

واختلف في علّة منع استعمال الماء المستعمل‏,‏ قال الشّربيني‏:‏ وهو الأصح‏:‏ لأنّه غير مطلق كما صحّحه النّووي وغيره‏.‏

فإن جمع المستعمل على الجديد فبلغ قلّتين فطهور في الأصحّ لأنّ النّجاسة أشد من الاستعمال‏,‏ والماء المتنجّس لو جمع حتّى بلغ قلّتين أي ولا تغير به صار طهوراً قطعاً‏,‏ فالمستعمل أولى‏,‏ ومقابل الأصحّ لا يعود طهوراً لأنّ قوّته صارت مستوفاةً بالاستعمال فالتحق بماء الورد ونحوه وهو اختيار ابن سريج‏.‏

ويقول الشّيرازي‏:‏ الماء المستعمل ضربان‏:‏ مستعمل في طهارة الحدث‏,‏ ومستعمل في طهارة النّجس‏.‏

فأمّا المستعمل في طهارة الحدث فينظر فيه‏:‏

فإن أستعمل في رفع حدث فهو طاهر‏,‏ لأنّه ماء طاهر لاقى محلاً طاهراً‏,‏ فكان طاهراً‏,‏ كما لو غسل به ثوب طاهر‏.‏

ثمّ قال‏:‏ وأمّا المستعمل في النّجس فينظر فيه‏:‏

فإن انفصل من المحلّ وتغيّر فهو نجسٌ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ الماء لا ينجّسه شيء إلّا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه»‏.‏

وإن كان غير متغيّر ففيه ثلاثة أوجهٍ‏:‏

أحدها‏:‏ أنّه طاهر‏,‏ وهو قول أبي العبّاس وأبي إسحاق لأنّه ماء لا يمكن حفظه من النّجاسة فلم ينجس من غير تغير كالماء الكثير إذا وقعت فيه نجاسة‏.‏

والثّاني‏:‏ أنّه ينجس‏,‏ وهو قول أبي القاسم الأنماطيّ لأنّه ماء قليل لاقى نجاسةً‏,‏ فأشبه ما وقعت فيه نجاسة‏.‏

والثّالث‏:‏ أنّه إن انفصل والمحل طاهر فهو طاهر‏,‏ وإن انفصل والمحل نجسٌ‏,‏ فهو نجسٌ‏.‏ وهو قول أبي العبّاس بن القاصّ لأنّ المنفصل من جملة الباقي في المحلّ‏:‏ فكان حكمه في النّجاسة والطّهارة حكمه‏.‏

الماء المستعمل عند الحنابلة‏:‏

12 - قال الحنابلة‏:‏ الماء الّذي أستعمل في رفع حدث أو إزالة نجسٍ ولم يتغيّر أحد أوصافه طاهر غير مطهّر لا يرفع حدثاً ولا يزيل نجساً وهذا هو ظاهر المذهب عندهم‏.‏ وعند أحمد رواية أخرى أنّه طاهر مطّهر‏.‏

أما الماء المستعمل في طهارة مستحبّة كتجديد الوضوء والغسلة الثّانية والثّالثة فيه والغسل للجمعة والعيدين وغيرهما ففيه روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ أنّه كالمستعمل في رفع الحدث لأنّه طهارة مشروعة أشبه ما لو اغتسل به من جنابة‏.‏

والثّانية‏:‏ لا يمنع الطّهوريّة لأنّه لم يزل مانعاً من الصّلاة أشبه ما لو تبرّد به‏,‏ فإن لم تكن الطّهارة مشروعةً لم يؤثّر استعمال الماء فيها شيئاً كالغسلة الرّابعة في الوضوء لم يؤثّر استعمال الماء فيها شيئاً وكان كما لو تبرّد أو غسل به ثوبه‏,‏ ولا تختلف الرّواية أنّ ما أستعمل في التّبرد والتّنظيف أنّه باق على إطلاقه‏,‏ قال ابن قدامة‏:‏ ولا نعلم فيه خلافاً‏.‏ وأمّا المستعمل في تعبد من غير حدث كغسل اليدين من نوم اللّيل‏,‏ فإن قلنا ليس ذلك بواجب لم يؤثّر استعماله في الماء‏,‏ وإن قلنا بوجوبه فقال القاضي‏:‏ هو طاهر غير مطّهر‏,‏ وذكر أبو الخطّاب فيه روايتين‏,‏ إحداهما‏:‏ أنّه يخرج عن إطلاقه لأنّه مستعمل في طهارة تعبد أشبه المستعمل في رفع الحدث‏,‏ ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم «نهى أن يغمس القائم من نوم اللّيل يده في الإناء قبل غسلها»‏,‏ فدلّ ذلك على أنّه يفيد منعاً‏.‏

والرّواية الثّانية أنّه باق على إطلاقه لأنّه لم يرفع حدثاً‏,‏ أشبه المتبرّد به‏.‏

الماء المسخّن‏:‏

وهو إمّا أن يكون مسخّناً بتأثير الشّمس فيه‏,‏ وإمّا أن يكون مسخّناً بتأثير غيرها‏.‏

أ - الماء المسخّن بتأثير الشّمس فيه ‏"‏ المشمّس ‏"‏‏:‏

13 - يطلق الفقهاء على الماء المسخّن بتأثير الشّمس فيه اسم الماء المشمّس وقد اختلفوا في حكم استعماله على قولين‏:‏

القول الأوّل‏:‏ جواز استعماله مطلقاً من غير كراهة‏,‏ سواء أكان هذا الاستعمال في البدن أم في الثّوب‏.‏

وبهذا قال الحنابلة وجمهور الحنفيّة وهو قول لبعض فقهاء المالكيّة والشّافعيّة كالنّوويّ والروياني‏.‏

القول الثّاني‏:‏ كراهة استعماله‏:‏ وذهب إليه المالكيّة في المعتمد عندهم و الشّافعيّة في المذهب وبعض الحنفيّة‏.‏

يقول الخطيب الشّربيني‏:‏ ويكره شرعاً تنزيهاً الماء المشمّس أي ما سخّنته الشّمس‏,‏ أي يكره استعماله في البدن في الطّهارة وغيرها كأكل وشرب‏,‏ لما روى الشّافعي عن عمر رضي الله عنه أنّه‏:‏ كان يكره الاغتسال بالماء المشمّس‏,‏ وقال‏:‏ يورّث البرص‏.‏

لكن بشرط أن يكون ببلاد حارّة أي تقلّبه الشّمس عن حالته إلى حالة أخرى‏,‏ كما نقله في البحر عن الأصحاب في آنيّة منطبعة غير النّقدين وهي كل ما طرق كالنحاس ونحوه‏,‏ وأن يستعمل في حال حرارته‏,‏ لأنّ الشّمس بحدّتها تفصل منه زهومةً تعلو الماء‏,‏ فإذا لاقت البدن بسخونتها خيف أن تقبض عليه فيحتبس الدّم فيحصل البرص‏.‏

وقال الدّردير‏:‏ يكره المشمّس أي المسخّن بالشّمس في الأقطار الحارّة كأرض الحجاز لا في نحو مصر والروم‏.‏

وعقّب الدسوقيّ على قول الدّردير في الشّرح الكبير ‏"‏ والمعتمد الكراهة ‏"‏ بقوله‏:‏ هو ما نقله ابن الفرات عن مالك واقتصر عليه جماعة من أهل المذهب‏.‏

وهذه الكراهة طبّيّة لا شرعيّة لأنّها لا تمنع من إكمال الوضوء أو الغسل‏,‏ بخلاف ما لو كانت كراهته لشدّة حرارته فإنّها شرعيّة‏,‏ والفرق بين الكراهتين‏:‏ أنّ الشّرعيّة يثاب تاركها بخلاف الطّبّيّة‏.‏

ويقول ابن عابدين‏:‏ قدّمنا في مندوبات الوضوء أنّ منها‏:‏ أن لا يكون بماء مشمّسٍ‏,‏ وبه صرّح في الحلية مستدلاً بما صحّ عن عمر من النّهي عنه‏,‏ ولذا صرّح في الفتح بكراهته‏,‏ ومثله في البحر‏.‏

وقال في معراج الدّراية وفي القنية‏:‏ وتكره الطّهارة بالمشمّس‏,‏ لقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها حين سخّنت الماء بالشّمس‏:‏ «لا تفعلي يا حميراء فإنّه يورث البرص»‏,‏ وفي الغاية‏:‏ يكره بالمشمّس في قطر حار في أوان منطبعة‏.‏

ب - الماء المسخّن بغير الشّمس‏:‏

14 - ذهب المالكيّة و الشّافعيّة إلى أنّ الماء المسخّن بالنّار لا يكره استعماله لعدم ثبوت نهي عنه ولذهاب الزهومة لقوّة تأثيرها‏,‏ وأضاف الشّافعيّة‏:‏ ولو كان التّسخين بنجاسة مغلّظة وإن قال بعضهم فيه وقفة‏.‏

وأمّا شديد السخونة أو البرودة فذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّه يكره في الطّهارة لمنعه الإسباغ‏.‏

وذهب الحنابلة إلى أنّ الماء المسخّن بالنّجاسة على ثلاثة أقسام‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يتحقّق وصول شيء من أجزاء النّجاسة إلى الماء فينجّسه إذا كان يسيراً‏.‏ والثّاني‏:‏ ألّا يتحقّق وصول شيء من أجزاء النّجاسة إلى الماء‏,‏ والحائل غير حصين فالماء على أصل الطّهارة ويكره استعماله‏.‏

الثّالث‏:‏ إذا كان الحائل حصيناً فقال القاضي يكره‏,‏ واختار الشّريف أبو جعفر وابن عقيل أنّه لا يكره‏,‏ لأنّه غير متردّد في نجاسته‏,‏ بخلاف الّتي قبلها‏.‏

وذكر أبو الخطّاب في كراهة المسخّن بالنّجاسة روايتين على الإطلاق‏.‏

الماء المختلط‏:‏

وهو إمّا أن يكون مختلطاً بطاهر‏,‏ أو يكون مختلطاً بنجس‏.‏

أوّلاً - حكم الماء المختلط بطاهر‏:‏

15 - اتّفق الفقهاء على أنّ الماء إذا اختلط به شيء طاهر - ولم يتغيّر به لقلّته - لم يمنع الطّهارة به‏,‏ لأنّ الماء باق على إطلاقه‏.‏

كما اتّفقوا على أنّ الماء إذا خالطه طاهر لا يمكن الاحتراز منه - كالطحلب والخزّ وسائر ما ينبت في الماء‏,‏ وكذا أوراق الشّجر الّذي يسقط في الماء أو تحمله الرّيح فتلقيه فيه‏,‏ وما تجذبه السيول من العيدان والتّبن ونحوه كالكبريت وغيره - فتغيّر به يجوز التّطهير به‏,‏ لأنّه يشق التّحرز منه‏.‏

أمّا الماء الّذي خالطه طاهر يمكن الاحتراز عنه - كزعفران وصابون ونحوهما - فتغيّر به أحد أوصافه فقد اختلفوا في حكمه إلى فريقين‏:‏

الفريق الأوّل‏:‏ وهم الحنفيّة وأحمد في رواية‏:‏ يرون أنّه طاهر مطهّر‏,‏ إلّا أنّ الحنفيّة يشترطون أن لا يكون التّغيير عن طبخ‏,‏ أو عن غلبة أجزاء المخالط حتّى يصير ثخيناً‏.‏ قال صاحب الهداية‏:‏ وتجوز الطّهارة بماء خالطه شيء طاهر فغيّر أحد أوصافه‏,‏ كماء المدّ‏,‏ والماء الّذي اختلط به اللّبن أو الزّعفران أو الصّابون أو الأشنان‏.‏‏.‏‏.‏ إلى أن يقول‏:‏ ولا يجوز - أي التّطهر - بماء غلب عليه غيره‏,‏ فأخرجه عن طبع الماء‏,‏ كالأشربة والخلّ وماء الباقلّا‏,‏ لأنّه لا يسمّى ماءً مطلقاً‏,‏ والمراد بماء الباقلّا وغيره‏:‏ ما تغيّر بالطّبخ‏,‏ فإن تغيّر بدون الطّبخ يجوز التّوضّؤ به‏.‏

وقال ابن قدامة‏:‏ ونقل عن أحمد جماعة من أصحابه‏,‏ منهم أبو الحارث والميموني وإسحاق بن منصور جواز الوضوء به‏.‏

واستدلوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ‏}‏‏.‏ فقد أمر اللّه عزّ وجلّ باستعمال الماء - منكّراً - عند إرادة الصّلاة‏,‏ ولم يبح التّيمم إلّا عند عدم وجوده والقدرة على استعماله‏,‏ فدلّ هذا على طهوريّته وعدم جواز التّيمم مع وجوده‏,‏ سواء أكان الواقع فيه مسكاً أم عسلاً أم نحو ذلك‏.‏

وبما ورد عن أمّ هانئٍ رضي الله عنها قالت‏:‏ «إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم اغتسل هو وميمونة من إناء واحد في قصعة فيها أثر العجين»‏.‏

فهذا الحديث واضح الدّلالة في جواز التّطهر بالماء إذا خالطه شيء طاهر يمكن الاحتراز عنه‏,‏ لأنّه لو كان اختلاطٌ يمنع التّطهر لما اغتسل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بماء فيه أثر العجين فدلّ هذا على طهوريّته‏,‏ ولأنّ الماء طهور بأصل خلقته‏,‏ وقد خالطه طاهر لم يسلبه اسم الماء ولا رقّته ولا جريانه‏,‏ فأشبه المتغيّر بالدهن‏,‏أو المختلط بالطحلب وشبهه‏.‏ والفريق الثّاني‏:‏ وهم المالكيّة والشّافعيّة وأحمد في رواية أخرى أنّه طاهر غير مطهّر‏.‏

قال صاحب أسهل المدارك‏:‏ والمتغيّر بالطّاهر كاللّبن طاهر في نفسه غير طهور‏,‏ يستعمل في العادات كالطّبخ والشّرب‏,‏ ولا يستعمل في العبادات كالوضوء والغسل‏.‏

وقال النّووي‏:‏ منع الطّهارة بالمتغيّر بمخالطة ما ليس بمطهّر والماء يستغنى عنه هو مذهبنا‏.‏

وقال ابن قدامة‏:‏ ما خالطه طاهر يمكن التّحرز منه فغيّر إحدى صفاته - طعمه أو لونه أو ريحه - كماء الباقلّا وماء الحمّص وماء الزّعفران‏,‏ اختلف أهل العلم في الوضوء به‏,‏ واختلفت الرّواية عن إمامنا - رحمه اللّه - في ذلك‏.‏ فروي عنه‏:‏ لا تحصل الطّهارة به‏.‏‏.‏ قال القاضي أبو يعلى‏:‏ وهي الأصح وهي المنصورة عند أصحابنا في الخلاف‏,‏ وقال المرداوي وهي المذهب‏.‏

واستدلوا بأنّه ماء تغيّر بمخالطة ما ليس بطهور‏,‏ ويمكن الاحتراز منه‏,‏ فلم يجز الوضوء به كماء الباقلّا المغلي‏,‏ وبأنّ اختلاط الماء بطاهر يمكن الاحتراز عنه كالزّعفران ونحوه يمنعه الإطلاق‏,‏ ولهذا لا يحنث بشربه الحالف على ألّا يشرب ماءً‏,‏ ولقياسه على ماء الورد‏.‏

ثانياً - حكم الماء إذا تغيّر بمجاورة طاهر

16 - إذا تغيّر الماء بمجاورة طاهر كالدهن والطّاهرات الصلبة كالعود والكافور‏,‏ إذا لم يهلك في الماء ولم يمع فيه فهو طاهر مطهّر عند الحنفيّة والحنابلة وبعض المالكيّة‏,‏ لأنّ هذا التّغيير إنّما هو من جهة المجاورة فلا يضر‏,‏ لأنّه لا يمنع إطلاق الاسم عليه‏,‏ فهو يشبه تروح الماء بريح شيء على جانبه‏.‏

والأظهر عند الشّافعيّة أنّه لا يضر متغيّر بمجاور طاهر كعود ودهن‏,‏ مطيّبين أو لا‏,‏ أو بتراب طرح فيه‏,‏ لأنّ تغيره بذلك لكونه في الأوّل تروحاً‏,‏ وفي الثّاني كدورةً لا يمنع إطلاق اسم الماء عليه‏.‏

ويرى المالكيّة في المعتمد لديهم‏,‏ والشّافعيّة في مقابل الأظهر‏:‏ أنّه طاهر غير مطهّر‏,‏ قياساً على المتغيّر المختلط‏.‏

أمّا إذا هلك المجاور الطّاهر وماع في الماء فحكمه حكم الطّاهر‏.‏

ثالثاً - حكم الماء المختلط بنجس

17 - اتّفق الفقهاء على أنّ الماء إذا خالطته نجاسة‏,‏ وغيّرت أحد أوصافه‏,‏ كان نجساً‏,‏ سواء أكان الماء قليلاً أم كثيراً‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ أجمع أهل العلم على أنّ الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة‏,‏ فغيّرت للماء طعماً أو لوناً أو رائحةً أنّه نجسٌ ما دام كذلك‏.‏

واختلفوا في الماء إذا خالطته نجاسة ولم تغيّر أحد أوصافه على قولين‏:‏

القول الأوّل‏:‏ أنّ الماء إذا خالطته نجاسة ولم تغيّر أحد أوصافه‏,‏ فهو طاهر سواء أكان كثيراً أم قليلاً‏,‏ وهذه رواية عن مالك‏,‏ وإحدى الرّوايتين عن أحمد‏,‏ وبه قال بعض الشّافعيّة‏,‏ وإليه ذهب جماعة من الصّحابة والتّابعين‏.‏

يقول ابن رشد‏:‏ اختلفوا في الماء الّذي خالطته نجاسة ولم تغيّر أحد أوصافه‏,‏ فقال قوم‏:‏ هو طاهر سواء أكان كثيراً أم قليلاً‏,‏ وهي إحدى الرّوايات عن مالك‏.‏

ويقول ابن قدامة‏:‏ وأمّا ما دون القلّتين إذا لاقته النّجاسة فلم يتغيّر بها فالمشهور في المذهب أنّه ينجس‏,‏ وروي عن أحمد رواية أخرى‏:‏ أنّ الماء لا ينجس إلّا بالتّغير قليله وكثيره‏.‏

واستدلّ أصحاب هذا القول بما روي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إنّ الماء لا ينجّسه شيء‏,‏ إلّا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه»‏.‏

القول الثّاني‏:‏ يفرّق بين كونه قليلاً وبين كونه كثيراً‏,‏ فإن كان الماء قليلاً ينجس‏,‏ وإن كان كثيراً لا ينجس‏.‏

وإلى هذا ذهب الحنفيّة‏,‏ وهو رواية عن مالك‏,‏ والمذهب عند الشّافعيّة‏,‏ والمشهور عند الحنابلة‏,‏ وهو رأي جماعة من الصّحابة والتّابعين‏.‏

18 - لكنّ أصحاب هذا القول اختلفوا في الحدّ الفاصل بين القليل والكثير على ثلاثة مذاهب‏:‏ المذهب الأوّل‏:‏ وهو مذهب الحنفيّة يرى‏:‏ أنّ الماء إن كان بحال يخلص بعضه إلى بعض فهو قليل‏,‏ وإن كان لا يخلص فهو كثير‏.‏

والمعتبر في الخلوص التّحريك‏,‏ فإن كان بحال لو حرّك طرف منه يتحرّك الطّرف الآخر فهو ممّا يخلص‏,‏ وإن كان لا يتحرّك فهو ممّا لا يخلص‏.‏

واختلفوا في جهة التّحريك‏:‏ فروى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنّه يعتبر التّحريك بالاغتسال من غير عنف‏,‏ وروى محمّد عنه أنّه يعتبر التّحريك بالوضوء‏,‏ وفي رواية باليد من غير اغتسال ولا وضوء‏.‏

واستدلوا بما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتّى يغسلها ثلاثاً‏,‏ فإنّه لا يدري أين باتت يده»‏.‏

فلو كان ماء الإناء لا ينجس بالغمس لم يكن للنّهي لوهم النّجاسة معنىً‏,‏ ومعلوم أنّ ماء الإناء إذا حرّكه آدميّ من أحد طرفيه سرت الحركة فيه إلى الطّرف الآخر‏.‏

وبما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب‏:‏ أن يغسله سبع مرّاتٍ أوّلاهنّ بالتراب»‏.‏

فقد أوجب النّبي صلى الله عليه وسلم غسل الإناء سبع مرّاتٍ أوّلاهنّ بالتراب إذا ولغ فيه الكلب‏,‏ وولوغ الكلب لا يغيّر لون الماء ولا طعمه ولا ريحه‏,‏ وإنّما يحرّكه‏.‏

المذهب الثّاني‏:‏ وهو مذهب مالك‏,‏ ويرى أنّه إن تغيّر لونه أو طعمه أو ريحه فهو قليل‏,‏ وإن لم يتغيّر فهو كثير‏.‏

واستدلوا بما روي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ الماء لا ينجّسه شيء إلّا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه»‏.‏

وفي رواية‏:‏ «إنّ الماء طاهر‏,‏ إلّا إن تغيّر ريحه أو طعمه أو لونه بنجاسة تحدث فيه»‏.‏ فهاتان الرّوايتان تفيدان أنّ التّغيير وعدمه معتبر في معرفة الطّاهر من النّجس‏,‏ وإذا كان كذلك كان حداً فاصلاً بين القليل والكثير‏,‏ بالقياس على ما إذا ورد الماء على النّجاسة‏,‏ فإنّه يبقى على طهارته ما لم يتغيّر‏.‏

المذهب الثّالث‏:‏ وهو مذهب الشّافعيّة والحنابلة‏,‏ ويرون أنّ الماء إذا بلغ قلّتين فهو كثير‏,‏ وإلّا فهو قليل‏.‏

واستدلوا بما رواه ابن عمر رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن الماء يكون في الفلاة وما ينوبه من الدّوابّ والسّباع‏,‏ فقال‏:‏ «إذا كان الماء قلّتين لم يحمل الخبث»‏,‏ وفي رواية‏:‏ «إذا كان الماء قلّتين لم ينجّسه شيء»‏.‏

فتحديد الماء بالقلّتين ونفي النّجاسة عنه يدل على أنّ ما دونهما ينجس‏,‏ إذ لو استوى حكم القلّتين وما دونهما لم يكن للتّحديد معنىً‏.‏

ولأنّ الأصول مبنيّة على أنّ النّجاسة إذا صعبت إزالتها وشقّ الاحتراز منها عفي عنها‏,‏ كدم البراغيث وسلس البول والاستحاضة، وإذا لم يشقّ الاحتراز لم يعف عنها كغير الدّم من النّجاسات‏,‏ ومعلوم أنّ قليل الماء لا يشق حفظه‏,‏ وكثيره يشق‏,‏ فعفي عمّا شقّ دون غيره‏,‏ وضبط الشّرع حدّ القلّة بقلّتين فتعيّن اعتماده‏,‏ ولا يجوز لمن بلغه الحديث العدول عنه‏.‏

واختلف الفقهاء في حكم الماء المختلط بنجس في حالتي الجريان والركود‏.‏

وفيما يلي أقوال الفقهاء في ذلك‏:‏

أوّلاً - مذهب الحنفيّة‏:‏

19 - فرّق فقهاء الحنفيّة بين كون الماء جارياً أو راكداً‏:‏

فإن وقع في الماء نجاسة وكان جارياً والنّجاسة غير مرئيّة‏,‏ ولم تغيّر أحد أوصاف الماء‏:‏ فهو طاهر عندهم‏.‏

يقول الكاساني‏:‏ فإن وقع - أي النّجس - في الماء‏:‏ فإن كان جارياً‏:‏

أ - فإن كان النّجس غير مرئي كالبول والخمر ونحوهما‏:‏ لا ينجس ما لم يتغيّر لونه أو طعمه أو ريحه‏,‏ ويتوضّأ منه من أيّ موضع كان من الجانب الّذي وقع فيه النّجس أو من جانب آخر‏.‏ كذا ذكره محمّد‏.‏

ثمّ قال‏:‏ وعن أبي حنيفة في الجاهل بال في الماء الجاري ورجل أسفل منه يتوضّأ به ‏؟‏ قال‏:‏ لا بأس به‏,‏ وهذا لأنّ الماء الجاري ممّا لا يخلص بعضه إلى بعض‏,‏ فالماء الّذي يتوضّأ به يحتمل أنّه نجسٌ‏,‏ ويحتمل أنّه طاهر‏,‏ والماء طاهر في الأصل فلا نحكم بنجاسته بالشّكّ‏.‏ ب - وإن كانت النّجاسة مرئيّةً كالجيفة ونحوها‏,‏ فإن كان جميع الماء يجري على الجيفة لا يجوز التّوضّؤ من أسفل الجيفة لأنّه نجسٌ بيقين‏,‏ والنّجس لا يطهر بالجريان‏.‏

وإن كان أكثره يجري على الجيفة فكذلك‏,‏ لأنّ العبرة للغالب‏.‏

وإن كان أقله يجري على الجيفة‏,‏ والأكثر يجري على الطّاهر يجوز التّوضّؤ به من أسفل الجيفة‏,‏ لأنّ المغلوب ملحق بالعدم في أحكام الشّرع‏.‏

وإن كان يجري عليها النّصف‏,‏ أو دون النّصف فالقياس أنّه يجوز التّوضّؤ به‏,‏ لأنّ الماء كان طاهراً بيقين‏,‏ فلا يحكم بكونه نجساً بالشّكّ‏.‏

وفي الاستحسان‏:‏ لا يجوز احتياطاً‏.‏

وقد اختلف فقهاء الحنفيّة في حدّ الجريان‏:‏ فقال بعضهم‏:‏ هو أن يجري بالتّبن والورق‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إن كان بحيث لو وضع رجل يده في الماء عرضاً لم ينقطع جريانه فهو جار‏,‏ وإلّا فلا‏.‏

وروي عن أبي يوسف‏:‏ إن كان بحال لو اغترف إنسان الماء بكفّيه لم ينحسر وجه الأرض بالاغتراف فهو جار‏,‏ وإلّا فلا‏.‏

وقيل‏:‏ ما يعده النّاس جارياً فهو جار‏,‏ وما لا فلا‏.‏ قال الكاساني‏:‏ وهو أصح الأقاويل‏.‏ وإن كان الماء راكداً وكان قليلاً ينجس وإن كان كثيراً لا ينجس‏.‏

ثانياً - مذهب المالكيّة‏:‏

20 - قال الدسوقيّ‏:‏ إنّ الماء اليسير - وهو ما كان قدر آنية الوضوء أو الغسل فما دونهما - إذا حلّت فيه نجاسة قليلة كالقطرة ولم تغيّره‏,‏ فإنّه يكره استعماله في رفع حدث أو في حكم خبث ومتوقّف على طهور كالطّهارة المسنونة والمستحبّة‏.‏

وأمّا استعماله في العادات فلا كراهة فيه‏,‏ فالكراهة خاصّة بما يتوقّف على طهور‏.‏

ثمّ قال‏:‏ الكراهة مقيّدة بقيود سبعة‏:‏ أن يكون الماء الّذي حلّت فيه النّجاسة يسيراً‏,‏ وأن تكون النّجاسة الّتي حلّت فيه قطرة فما فوقها‏,‏ وأن لا تغيّره‏,‏ وأن يوجد غيره‏,‏ وأن لا يكون له مادّة كبئر‏,‏ وأن لا يكون جارياً‏,‏ وأن يراد استعماله فيما يتوقّف على طهور كرفع حدث وحكم خبث وأوضية واغتسالات مندوبة‏.‏ فإن انتفى قيد منها فلا كراهة‏.‏

ثالثاً - مذهب الشّافعيّة‏:‏

21 - يقول الشّيرازي‏:‏ إذا وقعت في الماء نجاسة لا يخلو‏:‏ إمّا أن يكون راكداً أو جارياً‏,‏ أو بعضه راكداً وبعضه جارياً‏.‏

أ - فإن كان راكداً‏:‏ نظرت في النّجاسة‏:‏ فإن كانت نجاسةً يدركها الطّرف من خمر أو بول أو ميتة لها نفسٌ سائلة نظرت‏:‏

فإن تغيّر أحد أوصافه من طعم أو لون أو رائحة فهو نجسٌ‏,‏ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«الماء لا ينجس إلّا ما غيّر ريحه أو طعمه»‏.‏ فنصّ على الطّعم والرّيح‏,‏ وقيس اللّون عليهما لأنّه في معناهما‏.‏

وإن تغيّر بعضه دون البعض‏:‏ نجس الجميع‏,‏ لأنّه ماء واحد‏,‏ فلا يجوز أن ينجس بعضه دون بعض‏.‏

وإن لم يتغيّر‏:‏ نظرت‏:‏ فإن كان الماء دون القلّتين فهو نجسٌ‏,‏ وإن كان قلّتين فصاعداً فهو طاهر لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا كان الماء قلّتين لم يحمل الخبث»‏.‏ ولأنّ القليل يمكن حفظه من النّجاسة في الظروف‏,‏ والكثير لا يمكن حفظه من النّجاسة‏,‏ فجعل القلّتين حداً فاصلاً بينهما‏.‏

ثمّ قال‏:‏ فإن كانت النّجاسة ممّا لا يدركها الطّرف ففيه ثلاث طرق‏:‏

من أصحابنا من قال‏:‏ لا حكم لها‏,‏ لأنّها لا يمكن الاحتراز منها فهي كغبار السّرجين‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ حكمها حكم سائر النّجاسات لأنّها نجاسة متيقّنة فهي كالنّجاسة الّتي يدركها الطّرف‏.‏

ومنهم من قال‏:‏ فيه قولان‏.‏

كما بيّن حكمه إن كان جارياً‏,‏ فقال‏:‏

ب - وإن كان الماء جارياً وفيه نجاسة جارية كالميتة‏,‏ والجرية المتغيّرة‏,‏ فالماء الّذي قبلها طاهر لأنّه لم يصل إلى النّجاسة‏,‏ فهو كالماء الّذي يصب على النّجاسة من إبريق‏,‏ والّذي بعدها طاهر أيضاً لأنّه لم تصل إليه النّجاسة‏,‏ وأمّا ما يحيط بالنّجاسة من فوقها وتحتها ويمينها وشمالها فإن كان قلّتين ولم يتغيّر فهو طاهر‏,‏ وإن كان دونهما فهو نجسٌ كالرّاكد‏.‏

وقال أبو العبّاس ابن القاصّ‏:‏ فيه قول آخر قاله في القديم‏:‏ أنّه لا ينجس الماء الجاري إلّا لتغير‏,‏ لأنّه ماء ورد على النّجاسة فلم ينجس من غير تغير‏,‏ كالماء المزال به النّجاسة‏.‏ وإن كانت النّجاسة واقفةً والماء يجري عليها‏,‏ فإنّ ما قبلها وما بعدها طاهر‏,‏ وما يجري عليها إن كان قلّتين فهو طاهر‏,‏ وإن كان دونهما فهو نجسٌ‏,‏ وكذلك كل ما يجري عليها بعدها فهو نجسٌ‏,‏ ولا يطهر شيء من ذلك حتّى يركد في موضع ويبلغ قلّتين‏.‏

وأضاف الشّيرازي‏:‏ وإن كان بعضه جارياً وبعضه راكداً‏:‏ بأن يكون في النّهر موضع منخفضٌ يركد فيه الماء‏,‏ والماء يجري بجنبه والرّاكد زائل عن سمت الجري‏,‏ فوقع في الرّاكد نجاسة وهو دون القلّتين‏,‏ فإن كان مع الجرية الّتي يحاذيها يبلغ قلّتين فهو طاهر‏.‏ وإن لم يبلغ قلّتين فهو نجسٌ‏,‏ وتتنجّس كل جرية بجنبها إلى أن يجتمع في موضع قلّتان فيطهر‏.‏

رابعاً - مذهب الحنابلة‏:‏

22 - قال الحنابلة‏:‏ إذا تغيّر الماء بمخالطة النّجاسة فهو نجسٌ‏.‏

وإن لم يتغيّر وهو يسير ففيه روايتان‏,‏ إحداهما‏:‏ ينجس‏,‏ وهو المذهب وعليه الأصحاب‏,‏ وعموم هذه الرّواية يقتضي النّجاسة سواء أدركها الطّرف أو لا‏,‏ وهو الصّحيح وهو المذهب‏.‏

والرّواية الثّانية لا ينجس‏,‏ وهذا الخلاف في الماء الرّاكد‏.‏

وأمّا الجاري‏,‏ فعن أحمد أنّه كالرّاكد إن بلغ جميعه قلّتين دفع النّجاسة إن لم تغيّره‏,‏ وإلّا فلا وهي المذهب‏.‏

قال في الحاوي الصّغير‏:‏ ولا ينجس قليل جار قبل تغيره في أصحّ الرّوايتين‏,‏ وعن أحمد تعتبر كل جرية بنفسها‏,‏ اختارها القاضي وأصحابه‏,‏ وقال‏:‏ هي المذهب‏.‏

تطهير المياه النّجسة

23 - اختلف الفقهاء في كيفيّة تطهير الماء النّجس على الوجه الآتي‏:‏

قال الكاساني‏:‏ اختلف المشايخ في كيفيّة تطهير المياه النّجسة في الأواني ونحوها‏,‏ فقال أبو جعفر الهنداوني وأبو اللّيث‏:‏ إذا دخل الماء الطّاهر في الإناء وخرج بعضه يحكم بطهارته بعد أن لا تستبين فيه النّجاسة‏,‏ لأنّه صار ماءً جارياً‏,‏ ولم يستيقن ببقاء النّجاسة فيه‏.‏

وقال أبو بكر الأعمش‏:‏ لا يطهر حتّى يدخل الماء فيه‏,‏ ويخرج منه مثل ما كان فيه ثلاث مرّاتٍ‏,‏ فيصير ذلك بمنزلة غسله ثلاثاً‏.‏

وقيل‏:‏ إذا خرج منه مقدار الماء النّجس يطهر‏,‏ كالبئر إذا تنجّست أنّه يحكم بطهارتها بنزح ما فيها من الماء‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إنّ الماء النّجس يطهر بصبّ الماء عليه ومكاثرته حتّى يزول التّغير‏.‏

ولو زال التّغير بنفسه أو بنزح بعضه ففيه قولان‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏طهارة ف / 16‏)‏‏.‏

وأمّا الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ فقد فرّقوا بين ما إذا كان الماء المراد تطهيره دون القلّتين وبين ما إذا كان وفق القلّتين أو يزيد‏.‏

أ - فإن كان الماء دون القلّتين‏:‏ فتطهيره يكون بالمكاثرة‏.‏

وليس المراد بالمكاثرة صب الماء دفعةً واحدةً‏,‏ بل المراد إيصال الماء على ما يمكنه من المتابعة‏,‏ إمّا من ساقية‏,‏ وإمّا دلواً فدلواً‏,‏ أو يسيل إليه ماء المطر‏.‏

غير أنّ الشّافعيّة قالوا‏:‏ يكون التّكثير حتّى يبلغ قلّتين‏,‏ سواء أكان الماء الّذي كاثره به طاهراً أم نجساً‏,‏ قليلاً أم كثيراً‏,‏ لقول الرّسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا كان الماء قلّتين لم يحمل الخبث»‏.‏

أمّا الحنابلة فقالوا‏:‏ يكون التّكثير بقلّتين طاهرتين‏,‏ لأنّ القلّتين لو ورد عليهما ماء نجسٌ لم ينجّسهما ما لم تتغيّر به‏,‏ فكذلك إذا كانت واردةً‏,‏ ومن ضرورة الحكم بطهارتهما طهارةً ما اختلطتا به‏.‏

ب - وإن كان الماء وفق القلّتين‏:‏ فإمّا أن يكون غير متغيّر بالنّجاسة‏,‏ وحينئذٍ يطهر بالمكاثرة لا غير‏.‏

وإمّا أن يكون متغيّراً بها فيطهر بأحد أمرين‏:‏ بالمكاثرة إذا زال التّغير‏,‏ أو بتركه حتّى يزول تغيره بطول مكثه‏.‏

ولا يطهر بأخذ بعضه حينئذٍ ولو زال به التّغير‏,‏ لأنّه ينقص عن قلّتين وفيه نجاسة‏.‏

ج - وإن كان الماء يزيد عن قلّتين فله حالان‏:‏

إحداهما‏:‏ أن يكون نجساً بغير التّغير‏,‏ فلا سبيل إلى تطهيره بغير المكاثرة‏.‏

والثّاني‏:‏ أن يكون متغيّراً بالنّجاسة فتطهيره بأحد أمور ثلاثة‏:‏ بالمكاثرة‏,‏ أو بزوال تغيره بمكثه‏,‏ أو بالأخذ منه ما يزول به التّغير ويبقى بعد ذلك قلّتان فصاعداً‏.‏ فإن بقي ما دون القلّتين قبل زوال تغيره لم يبق التّغير علّة تنجيسه‏,‏ لأنّه تنجّس بدونه فلا يزول التّنجيس بزواله‏,‏ ولذلك طهر الكثير بالنّزح وطول المكث ولم يطهر القليل‏,‏ فإنّ الكثير لمّا كانت علّة تنجيسه التّغير زال تنجيسه بزوال علّته كالخمرة إذا انقلبت خلاً‏,‏ والقليل علّة تنجيسه الملاقاة لا التّغير فلم يؤثّر زواله في زوال التّنجيس‏.‏

واختلفوا في تطهيره بالتراب أو الجصّ إن زال به التّغير على قولين‏:‏

الأوّل‏:‏ لا يطهر‏,‏ كما لا يطهر إذا طرح فيه كافور أو مسك فزالت رائحة النّجاسة‏,‏ ولأنّ التراب أو الجصّ لا يدفع النّجاسة عن نفسه فعن غيره أولى‏,‏ وهو الأصح عند الشّافعيّة‏.‏ والثّاني‏:‏ يطهر‏,‏ لأنّ علّة نجاسته التّغير وقد زال‏,‏ فيزول التّنجيس كما لو زال بمكثه أو بإضافة ماء آخر‏,‏ ويفارق الكافور والمسك لأنّه يجوز أن تكون الرّائحة باقيةً‏,‏ وإنّما لم تظهر لغلبة رائحة الكافور والمسك‏.‏

تطهير مياه الآبار

24 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه إذا تنجّس ماء البئر فإنّ تطهيره يكون بالتّكثير إلى أن يزول التّغير ويكون التّكثير بالتّرك حتّى يزيد الماء ويصل إلى حدّ الكثرة أو بصبّ ماء طاهر فيه حتّى يصل هذا الحدّ‏.‏

كما ذهب المالكيّة والحنابلة إلى اعتبار النّزح طريقاً للتّطهير أيضاً‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى أنّه إذا تنجّس ماء البئر فإنّ تطهيره يكون بالنّزح فقط‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏آبار ف / 21 - 32‏)‏‏.‏

اختلاط الأواني واشتباه ما فيها من الماء الطّهور بالماء المتنجّس

25 - إذا اختلطت الأواني اختلاط مجاورة‏,‏ وكان في بعضها ماء طهور‏,‏ وفي البعض الآخر ماء نجسٌ واشتبه الأمر على الشّخص‏,‏ ولا قدرة له على إيجاد ماء آخر طهور غير الّذي في بعضها‏,‏ فقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة على خمسة أقوال‏:‏

القول الأوّل‏:‏ يجب عليه الاجتهاد والتّحرّي لمعرفة الطّهور منها‏,‏ فإذا اجتهد وغلب على ظنّه طهوريّة أحدها بعلامة تظهر جاز له التّطهر به‏,‏ وإلّا فلا‏.‏

وبهذا قال جمهور الشّافعيّة‏,‏ وبعض المالكيّة‏.‏

واستدلوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ‏}‏‏.‏ وهذا واجد للماء فلم يجز التّيمم‏,‏ ووجب الاجتهاد‏,‏ وبأنّ التّطهر شرطٌ من شروط صحّة الصّلاة يمكن التّوصل إليه بالاجتهاد‏,‏ فوجب قياساً على القبلة‏,‏ وعلى الاجتهاد في الأحكام وفي تقويم المتلفات وإن كان قد يقع في الخطأ‏.‏

القول الثّاني‏:‏ يجب عليه الاجتهاد والتّحرّي إذا كان عدد أواني الماء الطّهور أكثر من عدد أواني النّجس‏,‏ فإن كان عدد أواني الماء الطّهور مساوياً لعدد أواني النّجس أو أقلّ لا يجوز له التّحرّي‏,‏ بل يتيمّم‏.‏

وبهذا قال الحنفيّة‏,‏ وبعض الحنابلة‏.‏

واستدلوا بحديث الحسن بن علي رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»‏.‏ وكثرة النّجس تريب‏,‏ فوجب تركه والعدول إلى ما لا ريب فيه وهو التّيمم‏,‏ وبأنّ الأصول مقرّرة على أنّ كثرة الحرام واستواء الحلال والحرام يوجب تغليب حكمه في المنع كأخت أو زوجة اختلطت بأجنبيّة‏.‏

وبالقياس على ما لو اشتبه ماء وبول‏,‏ فإنّه لا يجتهد فيه بل يتيمّم‏.‏

القول الثّالث‏:‏ لا يجوز التّحرّي في المياه المختلطة عند الاشتباه مطلقاً‏,‏ بل يترك الجميع ويتيمّم‏.‏

وهو أحد قولي سحنون من المالكيّة‏,‏ وبه قال أبو ثور والمزني من الشّافعيّة‏,‏ وأحمد وأكثر أصحابه‏.‏

واستدلوا بأنّه إذا اجتهد قد يقع في النّجس‏,‏ وأنّه اشتبه طاهر بنجس فلم يجز الاجتهاد فيه كما لو اشتبه ماء وبول‏.‏

ثمّ اختلف هؤلاء فيما بينهم‏:‏ فقال أحمد في إحدى الرّوايتين‏:‏ لا يتيمّم حتّى يريق الماء لتحقق عدم الماء‏.‏

وقال سحنون وأبو ثور والمزني‏:‏ يتيمّم وإن لم يرقه لأنّه كالمعدوم‏.‏

القول الرّابع‏:‏ يتوضّأ ويصلّي بعدد النّجس وزيادة إناء‏.‏

وبهذا قال ابن الماجشون‏,‏ وهو القول الثّاني لسحنون‏.‏

واستدلوا بأنّ الشّخص في هذه الحالة معه ماء محقّق الطّهارة ولا سبيل إلى تيقن استعماله إلّا بالتّوضّؤ والصّلاة بعدد النّجس وزيادة إناء‏,‏ فلزمه ذلك‏.‏

القول الخامس‏:‏ يجوز التّطهر بأيّها شاء بلا اجتهاد ولا ظن‏.‏

وهو وجه للشّافعيّة‏.‏

واستدلوا بأنّ الأصل طهارة الماء في كلّ الأواني‏.‏

سقي أرض الفلاحة بماء نجسٍ

26 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة وابن عقيل من الحنابلة إلى أنّ الزّرع الّذي يسقى بماء نجسٍ طاهر‏,‏ فإن أصاب الماء النّجس ظاهر الزّرع تنجّس ووجب تطهيره بالغسل‏.‏ والمذهب عند الحنابلة‏:‏ أنّ الزروع والثّمار الّتي سقيت بالنّجاسات أو سمّدت بها تحرم‏,‏ لما روي عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما قال‏:‏ «كنّا نكري أرض رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ونشترط عليهم أن لا يدملوها بعذرة النّاس»‏,‏ ولأنّها تتغذّى بالنّجاسات وتترقّى فيها أجزاؤها‏,‏ والاستحالة لا تطهر‏,‏ فعلى هذا تطهر إذا سقيت الطّاهرات‏,‏ كالجلّالة إذا حبست وأطعمت الطّاهرات‏.‏

مُياوَمة

التّعريف

1 - المياومة لغةً‏:‏ من ياوَمَه مياومةً ويواماً‏:‏ عامله بالأيّام‏,‏ ويَاومت الرّجل مُياومةً ويواماً‏:‏ أي عاملته أو استأجرته اليوم‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الأجل‏:‏

2 - أجل الشّيء لغةً‏:‏ مدّته والوقت الّذي يحل فيه‏.‏

واصطلاحاً‏:‏ المدّة المستقبلة الّتي يضاف إليها أمر من الأمور‏.‏

والعلاقة بين الأجل والمياومة أنّ كليهما وقت محدّد‏,‏ غير أنّهما يختلفان في أمور‏:‏

أ - أنّ الوقت في المياومة محدّد باليوم أو الأيّام‏,‏ أمّا الأجل فإنّه قد يحدّد بالأيّام أو الشّهور أو أكثر من ذلك‏.‏

ب - أنّ محلّ المياومة هو المنفعة‏,‏ أمّا الأجل فقد يكون للمنفعة أو غيرها كضرب أجل للمدين المعسر بسنة مثلاً‏.‏

ب - التّأقيت‏:‏

3 - التّأقيت لغةً‏:‏ مصدر أقّت أو وقّت‏,‏ ومعناه‏:‏ تحديد الأوقات‏,‏ وهو يتناول الشّيء الّذي قدّرت له حيناً أو غايةً‏.‏ تقول‏:‏ وقّته ليوم كذا مثل أجّلته‏.‏

واصطلاحاً‏:‏ أن يكون الشّيء ثابتاً في الحال‏,‏ وينتهي في الوقت المحدّد‏.‏

والمياومة والتّأقيت يتّفقان في أنّ كلاً منهما فيه تحديد للوقت‏,‏ غير أنّه قد يكون في التّأقيت بمدّة أكثر من مدّته في المياومة أو أقلّ‏.‏

وانظر مصطلح ‏(‏تأقيت ف / 1‏)‏‏.‏

ج - المشاهَرة‏:‏

4 - المشاهرة لغةً‏:‏ المعاملة شهراً بشهر‏,‏ وشاهر الأجير مشاهرةً وشِهاراً‏:‏ استأجره للشّهر‏.‏

والمشاهرة من الشّهر كالمعاومة من العام‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

وتتّفق المياومة مع المشاهرة في أنّ كلاً منهما وقت محدّد للمنفعة‏,‏ غير أنّها في المشاهرة محدّدة بشهر‏,‏ وفي المياومة محدّدة بيوم أو أضعافه‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالمياومة

أ - حكم المياومة‏:‏

5 - اتّفق الفقهاء على أنّ المياومة - بمعنى تحديد مدّة المنفعة بيوم أو أيّام - جائزة إذا اتّفق الطّرفان عليها‏.‏

وللتّفصيل انظر مصطلح ‏(‏إجارة ف / 35 - 37‏,‏ 47‏,‏ إعارة ف / 9‏,‏ 12‏)‏‏.‏

ب - مدّة المياومة وتحديد اليوم‏:‏

6 - المياومة مأخوذة من أصلها وهو ‏(‏يوم‏)‏‏.‏

واليوم محدّد شرعاً بالزّمان الممتدّ من طلوع الفجر الثّاني إلى غروب الشّمس‏,‏ بخلاف النّهار فإنّه زمان ممتد من طلوع الشّمس إلى غروبها‏,‏ ولذلك يقال‏:‏ صمت اليوم‏,‏ ولا يقال‏:‏ صمت النّهار‏.‏

وقد يكون تحديد اليوم بالعرف‏,‏ جاء في مجلّة الأحكام العدليّة‏:‏ لو استأجر أحد أجيراً على أن يعمل يوماً‏,‏ يعمل من طلوع الشّمس إلى العصر أو الغروب‏,‏ على وفق عرف البلدة في خصوص العمل‏.‏

مَيْتَة

التّعريف

1 - تطلق الميتة في اللغة على ما مات حتف أنفه من الحيوان من الموت الّذي هو مفارقة الروح الجسد‏.‏ أمّا المِيتَة - بكسر الميم - فهي للحال والهيئة‏.‏ يقال‏:‏ مات مِيتةً حسنةً‏,‏ ومات مِيتةً جاهليّةً‏,‏ ونحو ذلك‏.‏

وفي الاصطلاح قال الجصّاص‏:‏ الميتة في الشّرع اسمُ الحيوان الميّت غير المذكّى‏,‏ وقد يكون ميتةً بأن يموت حتف أنفه من غير سبب لآدميّ فيه‏,‏ وقد يكون ميتةً بسبب فعل الآدميّ إذا لم يكن فعله فيه على وجه الذّكاة المبيحة له‏.‏

كما تطلق الميتة شرعاً على العضو المبان من الحيوان الحيّ‏,‏ كاليد والرّجل والألية وغيرها‏,‏ سواء كان أصله مأكولاً أم غير مأكول وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما قطع من البهيمة وهي حيّة‏,‏ فهي ميتة»‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - التّذكية‏:‏

2 - التّذكية في اللغة مصدر ذكّى‏,‏ والاسم الذّكاة‏,‏ ومعناها تمام الشّيء والذّبح‏,‏ يقال‏:‏ ذكّيت الذّبيحة إذا أتممت ذبحها‏,‏ والمذكّاة اسم مفعول من ذكّى‏.‏

والتّذكية في الاصطلاح الشّرعيّ هي السّبب الموصل إلى حِلّ أكل الحيوان البرِّيّ اختياراً‏,‏ وقد عَرَّفها القاضي ابن العربيّ بقوله‏:‏ هي في الشّرع عبارة عن إنهار الدّم وفري الأوداج في المذبوح‏,‏ والنّحر في المنحور‏,‏ والعقر في غير المقدور عليه‏,‏ مقروناً ذلك بنيّة القصد إليه‏,‏ وذكر اللّه تعالى عليه‏.‏

والصّلة بين الميتة وبين الحيوان المذكّى التّضاد من حيث أنّ المذكّاة يحل أكلها‏,‏ أمّا الميتة فلا يحل أكلها‏.‏

ب - المنخنقة‏:‏

3 - المنخنقة هي الّتي تموت خنقاً - بحبل أو بغير حبل - إمّا قصداً‏,‏ وإمّا اتّفاقاً بأن تتخبّط الدّابّة في وثاقها‏,‏ فتموت به‏.‏

قال الرّازيّ‏:‏ واعلم أنّ المنخنقة على وجوهٍ‏:‏ منها‏:‏ أنّ أهل الجاهليّة كانوا يخنقون الشّاة‏,‏ فإذا ماتت أكلوها‏,‏ ومنها‏:‏ ما يُخنق بحبل الصّائد‏.‏ ومنها‏:‏ ما يدخل رأسها بين عودين في شجرة‏,‏ فتختنق‏,‏ فتموت‏.‏

والمنخنقة من جنس الميتة‏,‏ لأنّها لمّا ماتت وما سال دمها‏,‏ كانت كالميّت حتف أنفه‏,‏ إلّا أنّها فارقت الميتة بكونها تموت بسبب انعصار الحلق بالخنق‏.‏

فالميتة أعم من المنخنقة‏.‏

ج - الموقوذة‏:‏

4 - الموقوذة هي الّتي ضُربت إلى أن ماتت‏,‏ يقال‏:‏ وقذها وأوقذها‏,‏ إذا ضربها إلى أن ماتت‏,‏ ويدخل في الموقوذة ما رُمي بالبندق فمات‏.‏ قال الضّحّاك‏:‏ كان أهل الجاهليّة يضربون الأنعام بالخشب لآلهتهم حتّى يقتلوها‏,‏ فيأكلوها‏.‏

والموقوذة من جنس الميتة‏,‏ من حيث إنّها ماتت دون تذكية‏.‏

والميتة أعم من الموقوذة‏.‏

د - المتردّية‏:‏

5 - المتردّي‏:‏ هو الواقع في الرّدى‏,‏ وهو الهلاك‏.‏ والمتردّية‏:‏ هي الّتي تقع من جبل‏,‏ أو تطيح في بئر‏,‏ أو تسقط من شاهق‏,‏ فتموت‏.‏

والمتردّية من جنس الميتة‏,‏ لأنّها ماتت دون تذكية‏.‏

والميتة أعم من المتردّية‏.‏

هـ - النَّطيحة‏:‏

6 - النّطيحة هي المنطوحة إلى أن ماتت‏,‏ وذلك مثل كبشين تناطحا إلى أن ماتا أو مات أحدهما‏.‏

والنّطيحة من الميتة‏,‏ لأنّها ماتت من غير تذكية‏.‏

والميتة أعم من النّطيحة‏.‏

و - الميِّت‏:‏

7 - الميّت في اللغة - بالتّشديد ويخفّف - يقال‏:‏ ميْت وميّت بمعنى واحد ويستوي فيه المذّكّر والمؤنّث‏,‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا‏}‏‏,‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ‏}‏‏,‏ والميّت هو الّذي فارق الحياة‏,‏ وجمعه أموات وموتى‏.‏

واصطلاحاً‏:‏ هو الّذي فارق الحياة‏,‏ والموتى جمع من يعقل‏,‏ والميّتون مختص بذكور العقلاء‏,‏ والميّتات بالتّشديد مختصّة لإناثهم‏,‏ وبالتّخفيف للحيوانات‏.‏

والعلاقة بين الميّت والميّتة هو أنّ كلاً منهما قد فارق الحياة‏.‏

ز - الذّبيحة على النصب‏:‏

8 - النُّصُبُ هي حجارة كانت منصوبةً حول البيت الحرام‏,‏ وكان أهل الجاهليّة يذبحون عليها ويشرحون اللّحم عليها‏,‏ ويعظّمونها بذلك‏,‏ ويتقرّبون به إليها‏,‏ قال ابن جزي‏:‏ وليست هي بالأصنام‏,‏ لأنّ الأصنام مصوّرة‏,‏ والنصب غير مصوّرة‏,‏ وتسمّى الأنصاب‏,‏ والمفرد نصاب‏,‏ وقيل‏:‏ إنّ النصب مفرد‏,‏ وجمعه أنصاب‏.‏

وما ذبح على النصب داخل في الميتة في الاصطلاح الشّرعيّ‏,‏ والميتة أعم ممّا ذبح على النصب‏.‏

ج - أكيلة السَّبع‏:‏

9 - أكيلة السّبع هي ما بقي ممّا أكله السّبع أو افترسه من الماشية‏,‏ قال ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما وقتادة وغيرهما‏:‏ كان أهل الجاهليّة إذا جرح السّبع شيئاً فقتله‏,‏ وأكل بعضه‏,‏ أكلوا ما بقي فحرّمه اللّه تعالى‏.‏

وأكيلة السّبع داخلة في الميتة في الاصطلاح الشّرعيّ‏,‏ والميتة أعم منها‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالميتة

تتعلّق بالميتة أحكام منها‏:‏

حرمة أكل الميتة

10 - أجمع الفقهاء على حرمة أكل الميتة في حالة السّعة والاختيار لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏

وقد عبّر الإمام الرّازيّ عن حكمة تحريم أكل الميتة الّتي نفقت حتف أنفها بقوله‏:‏ واعلم أنّ تحريم الميتة موافق لما في العقول‏,‏ لأنّ الدّم جوهر لطيف جداً‏,‏ فإذا مات الحيوان حتف أنفه احتبس الدّم في عروقه وتعفَّن وفسد‏,‏ وحصل من أكله مضار عظيمة‏.‏

وأمّا حكمة تحريم أكل الميتة الّتي قتلت على هيئة غير مشروعة ‏"‏ أي بدون تذكية ‏"‏ فقد أوضحها الإمام ابن القيّم بقوله‏:‏ فلأنّ اللّه سبحانه حرَّم علينا الخبائث‏,‏ والخبثُ الموجب للتّحريم قد يظهر لنا وقد يخفى‏,‏ فما كان ظاهراً لم ينصب عليه الشّارع علامةً غير وصفه‏,‏ وما كان خفيّاً نصب عليه علامةً تدلُّ على خبثه‏.‏

فاحتقان الدّم في الميتة سبب ظاهر‏,‏ وأمّا ذبيحة المجوسيّ والمرتدّ وتارك التّسمية ومن أهلّ بذبيحته لغير اللّه‏,‏ فنفس ذبيحة هؤلاء أكسبت المذبوح خبثاً أوجب تحريمه‏,‏ ولا ينكر أن يكون ذكر اسم الأوثان والكواكب والجنّ على الذّبيحة يُكسبها خبثاً‏,‏ وذِكْرُ اسم اللّه وحده يُكسبها طيباً إلّا من قلّ نصيبه من حقائق العلم والإيمان وذوق الشّريعة‏.‏

11 - وأمّا في حالة الإلجاء والاضطرار‏,‏ فقد ذهب الفقهاء إلى جواز أكل الميتة عندئذٍ‏,‏ فمن أضطرّ إلى أكل الميتة إمّا بإكراه ملجئٍ من ظالم أو بجوع في مخمصة أو بفقر لا يجد معه غير الميتة‏,‏ حلّ له ذلك لداعي الضّرورة‏,‏ حيث جاء في التّنزيل بعد تحريم الميتة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏,‏ وقال سبحانه‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏

قال الزّيلعي‏:‏ فظهر أنّ التّحريم مخصوص بحالة الاختيار‏,‏ وفي حالة الاضطرار مباح‏,‏ لأنّ الضّرورات تبيح المحظورات‏.‏

12 - واختلف الفقهاء في حدّ الضّرورة المبيحة لأكل الميتة على أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أن يخاف على نفسه الهلاك قطعاً أو ظناً‏,‏ وهو قول المالكيّة في المشهور‏.‏

الثّاني‏:‏ أن يخاف على نفسه موتاً أو مرضاً مخوفاً أو زيادته أو طول مدّته‏,‏ أو انقطاعه عن رفقته‏,‏ أو خوف ضعف عن مشي أو ركوب‏,‏ فيسمّى هذا الخائف مضطراً‏.‏ وهو مذهب الشّافعيّة والحنابلة‏.‏

الثّالث‏:‏ خوف التّلف على نفسه أو بعض أعضائه بتركه الأكل‏,‏ ويحصل ذلك في موضع لا يجد فيه غير الميتة‏,‏ أو أن يكون غيرها موجوداً‏,‏ ولكنّه أكره على أكلها بوعيد يخاف منه تلف نفسه أو بعض أعضائه‏,‏ وهو مذهب الحنفيّة‏.‏

هذا في ميتة غير الآدميّ‏,‏ وأمّا ميتة الآدميّ فقد اختلف الفقهاء فيها‏,‏ وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏ضرورة ف / 10‏)‏‏.‏

13 - واختلف الفقهاء في حكم أكل الميتة عند الاضطرار على ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ الوجوب‏,‏ فمن أضطرّ إلى أكل الميتة‏,‏ وجب عليه تناولها‏,‏ فإن امتنع من الأكل وصبر حتّى مات أثم‏,‏ وهو قول جمهور الفقهاء من الحنفيّة وقول عند المالكيّة والشّافعيّة على الأصحّ والحنابلة على الصّحيح‏,‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ‏}‏ حيث أنّ ترك الأكل مع إمكانه في هذه الحال إلقاء بيده إلى التّهلكة‏,‏ ولقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا‏}‏‏,‏ ولأنّه قادر على إحياء نفسه بما أحلّه اللّه له‏,‏ فلزمه كما لو كان معه طعام حلال‏.‏

الثّاني‏:‏ الإباحة‏,‏ وهو قول أبي يوسف من الحنفيّة وسحنون من المالكيّة وأبي إسحاق الشّيرازيّ من الشّافعيّة ووجه عند الحنابلة وعلى ذلك‏:‏ فلو امتنع المضطر عن أكلها حتّى مات‏,‏ فلا إثم عليه‏,‏ لأنّ إباحة الأكل رخصة‏,‏ فلا تجب عليه كسائر الرخص‏.‏ ولأنّ له غرضاً في اجتناب النّجاسة والأخذ بالعزيمة‏,‏ وربّما لم تطب نفسه بتناول الميتة‏,‏ وفارق الحلال في الأصل من هذه الوجوه‏.‏

الثّالث‏:‏ النّدب‏,‏ وهو قول بعض الحنابلة‏.‏

وللتّفصيل أنظر ‏(‏ضرورة ف / 10‏,‏ أطعمة ف / 90‏)‏‏.‏

مقدار ما يباح للمضطرّ تناوله من الميتة

14 - اختلف الفقهاء في مقدار ما يباح للمضطرّ تناوله من الميتة على ثلاثة أقوال‏:‏

الأوّل‏:‏ لجمهور الفقهاء من الحنفيّة والحنابلة والشّافعيّة في الأظهر وابن الماجشون وابن حبيب من المالكيّة وغيرهم‏,‏ وهو أنّه لا يجوز للمضطرّ أن يأكل من الميتة إلّا قدر ما يسد به رمقه‏,‏ أي‏:‏ ما يحفظ به حياته‏,‏ قال الصّاوي‏:‏ المراد بالرّمق‏:‏ الحياة‏,‏ وسدها‏:‏ حفظها‏.‏

لأنّ ما أبيح للضّرورة يقدّر بقدرها‏,‏ وذلك أنّ اللّه حرّم الميتة‏,‏ واستثنى ما أضطرّ إليه‏,‏ فإذا اندفعت الضّرورة‏,‏ عادت الحرمة كحالة الابتداء‏.‏

يوضّحه أنّه بعد سدّ الرّمق غير مضطر‏,‏ فزال الحكم بزوال علّته‏,‏ لأنّ القاعدة المقرّرة أنّ الحكم يدور مع العلّة وجوداً وعدماً‏.‏

الثّاني‏:‏ للمالكيّة على المعتمد والشّافعيّة في قول وأحمد في رواية عنه‏,‏ وهو أنّه يجوز للمضطرّ أن يأكل من الميتة حتّى يشبع‏,‏ لأنّ الضّرورة ترفع التّحريم‏,‏ فتعود مباحةً كسائر الأطعمة‏,‏ وذلك لما روى جابر بن سمرة رضي الله عنه «أنّ رجلاً نزل الحرّة‏,‏ فنفقت عنده ناقة‏,‏ فقالت له امرأته‏:‏ أسلخها حتّى نقدّد شحمها ولحمها ونأكله‏,‏ فقال‏:‏ حتّى أسأل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فسأله فقال‏:‏ هل عندك غنىً يغنيك ‏؟‏ قال‏:‏ لا‏,‏ قال‏:‏ فكلوها»‏.‏

الثّالث‏:‏ لعبيد اللّه بن الحسن العنبريّ‏:‏ وهو أنّ له أن يأكل منها ما يسد جوعه‏,‏ وذلك فوق قدر إمساك الرّمق‏.‏

تزود المضطرّ بالميتة

10 - إذا خشي المضطر استمرار حالة الضّرورة‏,‏ فهل يجوز له التّزود من الميتة ‏؟‏

اختلف الفقهاء في ذلك على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ لجمهور الفقهاء من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة في الأصحّ‏,‏ وهو أنّ له ذلك‏,‏ فإن استغنى عنها طرحها‏,‏ وذلك لأنّه لا ضرر عليه في استصحابها ولا في إعدادها لدفع ضرورته وقضاء حاجته‏,‏ ولا يأكل منها إلّا عند ضرورته‏.‏

والثّاني‏:‏ لأحمد في رواية عنه‏,‏ وهو أنّه لا يجوز له ذلك‏,‏ لأنّه توسُّع فيما لم يُبح إلّا للضّرورة‏.‏

حكم التّداوي بالميتة

16 - اختلف الفقهاء في مشروعيّة التّداوي بالميتة إذا احتيج إلى تناولها للعلاج‏,‏ بأن علم المسلم أنّ فيها شفاءً‏,‏ ولم يجد دواءً غيرها‏,‏ سواء أكانت منفردةً أم مخلوطةً بغيرها في بعض الأدوية المركّبة‏,‏ وذلك على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ الإباحة‏,‏ وهو قول الحنفيّة والصّحيح من مذهب الشّافعيّة لأنّه صلى الله عليه وسلم «أباح للعُرنيّين شرب أبوال الإبل وألبانها للتّداوي»‏,‏ قال العز بن عبد السّلام‏:‏ لأنّ مصلحة العافية والسّلامة أكمل من مصلحة اجتناب النّجاسة‏.‏

والثّاني‏:‏ عدم الجواز‏.‏ وهو قول المالكيّة والحنابلة‏,‏ لما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «إنّ اللّه لم يجعل شفاء أمّتي فيما حرّم عليها»‏.‏ قال ابن القيّم‏:‏ والمعالجة بالمحرّمات قبيحة عقلاً وشرعاً‏,‏ أمّا الشّرع فللحديث السّابق‏,‏ وأمّا العقل‏,‏ فهو أنّ اللّه سبحانه إنّما حرّمه لخبثه‏,‏ فإنّه لم يحرّم على هذه الأمّة طيّباً عقوبةً لها‏,‏ كما حرّمه على بني إسرائيل بقوله‏:‏ ‏{‏فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ‏}‏‏,‏ وإنّما حرّم على هذه الأمّة ما حرّم لخبثه‏,‏ وتحريمه له حميّة لهم‏,‏ وصيانة عن تناوله‏,‏ فلا يناسب أن يطلب به الشّفاء من الأسقام والعلل‏,‏ فإنّه وإن أثّر في إزالتها‏,‏ لكنّه يعقب سماً أعظم منه في القلب بقوّة الخبث الّذي فيه‏,‏ فيكون المداوى به قد سعى في إزالة سقم البدن بسقم القلب‏.‏

نجاسة الميتة

17 - ذهب الفقهاء ‏"‏ الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‏"‏ إلى أنّ الميتة نجسة العين‏,‏ وقد حرّم اللّه أكلها بقوله‏:‏ ‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ‏}‏‏,‏ ووصفها بالرّجس في قوله‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ‏}‏ والرّجس في اللغة هو القذر والنّجس‏,‏ وحكى الرّازيّ الإجماع على نجاسة الميتة‏,‏ هذا في ميتة غير الآدميّ‏,‏ أمّا ميتة الآدميّ فينظر تفصيله في مصطلح ‏(‏نجاسة‏)‏‏.‏

نجاسة إنفحة الميتة

18 - اختلف الفقهاء في الحكم بنجاسة إنفحة الميتة من الحيوان المأكول اللّحم‏,‏ حيث إنّها قد تستعمل في صناعة الجبن‏,‏ وذلك على ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ لجمهور الفقهاء من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة في ظاهر المذهب‏,‏ وهو أنّها نجسة‏,‏ والجبنُ المعقود بها متنجّسٌ‏,‏ لا يحل أكله‏,‏ لأنّ تحريم الميتة تحريم لجميع أجزائها‏,‏ ومنها الإنفحة‏.‏

والثّاني‏:‏ لأبي يوسف ومحمّد صاحبي أبي حنيفة‏,‏ وهو أنّها إن كانت مائعةً فهي نجسة لنجاسة وعائها‏,‏ وإن كانت صلبةً يغسل ظاهرها وتؤكل‏.‏

والثّالث‏:‏ لأبي حنيفة وأحمد في رواية عنه رجّحها ابن تيميّة وهو أنّها طاهرة‏,‏ لأنّ الصّحابة رضي الله عنهم لمّا دخلوا المدائن أكلوا الجبن‏,‏ وهو يعمل بالإنفحة الّتي تؤخذ من صغار المعز‏,‏ وذبائحهم ميتة‏.‏

نجاسة لبن الميتة

19 - اختلف الفقهاء في نجاسة اللّبن الخارج من ميتة الحيوان المأكول اللّحم على قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ لأبي حنيفة وأحمد في رواية عنه‏,‏ وهو أنّه طاهر مأكول شرعاً‏,‏ ودليلهم قوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ‏}‏‏,‏ حيث إنّ اللّه سبحانه وصفه بكونه خالصاً‏,‏ فلا يتنجّس بنجاسة مجراه‏,‏ ووصفه بكونه سائغاً‏,‏ وهذا يقتضي الحلّ‏,‏ وامتنّ علينا به‏,‏ والمنّة بالحلال لا بالحرام‏.‏ والثّاني‏:‏ لجمهور الفقهاء من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة والصّاحبين من الحنفيّة وهو أنّه نجسٌ‏,‏ لا يحل تناوله‏,‏ وذلك لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ‏}‏ حيث إنّ تحريم الميتة تحريم لجميع أجزائها‏,‏ ومنها اللّبن‏,‏ ولأنّه مائع في وعاء نجسٍ‏,‏ فتنجّس به‏,‏ أشبه ما لو حُلب في إناء نجسٍ‏.‏

نجاسة البيض الخارج من الميتة

20 - اختلف الفقهاء في نجاسة البيض المنفصل عن ميتة مأكول اللّحم على ثلاثة أقوال‏:‏ أحدها‏:‏ للحنابلة والشّافعيّة في الأصحّ وابن المنذر وهو أنّ البيضة الّتي أخرجت من جوف ميتة الدّجاج إذا صلبت قشرتها فهي طاهرة‏,‏ ويحل أكلها‏,‏ لأنّ القشرة إذا صلّبت حجزت بين المأكول وبين الميتة‏,‏ فتحل‏.‏ أمّا قبل تصلب قشرتها فهي نجسة لا تؤكل‏.‏

ولأنّها ليست جزءاً من الميتة وإنّما هي مودعة فيها غير متّصلة بها فأشبهت الولد إذا خرج حيّاً من الميتة‏,‏ ولأنّها خارجة من حيوان يخلق منها مثل أصلها‏,‏ فأشبهت الولد الحيّ‏,‏ ولا خلاف عند الشّافعيّة في أنّ ظاهر هذه البيضة نجسٌ‏.‏

والثّاني‏:‏ للحنفيّة ووجه عند الشّافعيّة وهو أنّها طاهرة يجوز أكلها مطلقاً‏,‏ سواء اشتدّ قشرها أو لم يشتدّ‏.‏

والثّالث‏:‏ للمالكيّة واللّيث بن سعد ووجه عند الشّافعيّة‏,‏ وهو أنّها نجسة مطلقاً‏,‏ ولا يحل أكلها‏,‏ لأنّها جزء من الميتة‏.‏

والتّفصيل في ‏(‏أطعمة ف / 81‏)‏‏.‏

ما يحلُّ الانتفاع به من الميتة

21 - ذهب الفقهاء إلى جواز الانتفاع بالميتة من بعض الوجوه‏,‏ وإن كان بينهم ثمّة اختلاف في ذلك‏,‏ وتفصيل ذلك فيما يلي‏:‏

أ - جلد الميتة بعد الدّباغ‏:‏

22 - لا خلاف بين الفقهاء في نجاسة جلد الميتة قبل دبغه‏,‏ ولكنّهم اختلفوا في طهارته بالدّباغ على خمسة أقوال‏:‏

الأوّل‏:‏ للحنفيّة والشّافعيّة وأحمد في رواية عنه‏,‏ وهو أنّ جلود الميتة تطهر كلها بالدّباغ إلّا الخنزير‏,‏ واستثنى الشّافعيّة أيضاً جلد الكلب‏.‏

الثّاني‏:‏ للمالكيّة و الحنابلة في المشهور وهو عدم طهارة جلد الميتة بالدّباغة‏,‏ قال المالكيّة‏:‏ لكن يجوز الانتفاع بذلك الجلد المدبوغ واستعماله مع نجاسته في اليابسات وفي الماء وحده دون سائر المائعات‏.‏

الثّالث‏:‏ لأبي يوسف من الحنفيّة ولسحنون وابن عبد الحكم من المالكيّة‏,‏ وهو أنّ جميع الجلود تطهر بالدّباغ حتّى الخنزير‏.‏

الرّابع‏:‏ لأحمد في رواية عنه‏,‏ وهو أنّه إنّما يطهر بالدّباغ جلد ميتة ما كان طاهراً حال الحياة‏.‏

الخامس‏:‏ للأوزاعيّ وأبي ثور وأحمد في رواية عنه‏,‏ وهو طهارة جلود ميتة الحيوان المأكول اللّحم فقط‏.‏

‏(‏ر‏:‏ دباغة ف / 9 وما بعدها‏)‏‏.‏

ب - صوف الميتة وشعرها‏:‏

23 - اختلف الفقهاء في حكم الانتفاع بصوف وشعر ووبر ميتة الحيوان المأكول اللّحم على قولين‏:‏

الأوّل‏:‏ لجمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة في المذهب‏,‏ وهو أنّ صوف الميتة وشعرها ووبرها طاهر يجوز الانتفاع به‏,‏ وهو قول الحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيّب وإبراهيم النّخعيّ واللّيث بن سعد والأوزاعيّ وابن المنذر وغيرهم‏.‏

واستدلوا على ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ‏}‏‏,‏ فعمّ اللّه الجميع بالإباحة من غير فصل بين المذكّى منها وبين الميتة‏,‏ ولأنّه عزّ وجلّ ذكر هذه الأشياء في معرض المنّة‏,‏ والمنّة لا تقع بالنّجس الّذي لا يحل الانتفاع به‏.‏ واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم في الميتة‏:‏ «إنّما حُرِّمَ أَكْلُها»‏.‏ قال الجصّاص‏:‏ فأبان النّبي صلى الله عليه وسلم عن مراد اللّه تعالى بتحريم الميتة‏,‏ فلمّا لم يكن الشّعر والصوف والعظم ونحوها من المأكول لم يتناولها التّحريم‏.‏

كما استدلوا بأنّ هذه الشّعور والأصواف والأوبار أجسام منتفع بها‏,‏ لعدم تعرضها للتّعفن والفساد‏,‏ فوجب أن يقضى بطهارتها كالجلود المدبوغة‏,‏ ولأنّ نجاسة الميتات ليست لأعيانها‏,‏ بل لما فيها من الدّماء السّائل والرطوبات النّجسة‏,‏ وهي غير موجودة في هذه الأشياء‏.‏

قال القرافي‏:‏ وحجّتنا أنّها طاهرة قبل الموت‏,‏ فتكون طاهرةً بعده‏,‏ عملاً بالاستصحاب‏,‏ ولأنّ الموت لا يلحقها‏,‏ إذ الموت عبارة عن معنىً يحل بعد عدم الحياة‏,‏ ولم تكن الحياة في الصوف والوبر والشّعر‏,‏ فيخلفها الموت فيها‏.‏

الثّاني‏:‏ للشّافعيّة في المذهب وأحمد في رواية عنه‏,‏ وهو أنّ صوف الميتة وشعرها ووبرها نجسٌ لا يحل الانتفاع به‏,‏ وذلك لأنّها جزء من الميتة‏,‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ‏}‏ عام في تحريم سائر أجزائها‏.‏

ج - عظم الميتة وقرنها‏:‏

24 - اختلف الفقهاء في حكم الانتفاع بعظم الميتة من الحيوان المأكول اللّحم وقرنها وظلفها وظفرها على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ للشّافعيّة في المذهب و المالكيّة و الحنابلة‏,‏ وهو أنّها نجسة لا يحل الانتفاع بها‏,‏ وذلك لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ حيث دلّ على أنّها كانت حيّةً‏,‏ فصارت عند الموت ميتةً‏,‏ وإذا ثبت أنّها ميتة‏,‏ وجب أن يحرم الانتفاع بها لعموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ‏}‏‏.‏

والثّاني‏:‏ للحنفيّة وابن وهب من المالكيّة وأحمد في رواية عنه اختارها ابن تيميّة وهو أنّها طاهرة يحل الانتفاع بها‏,‏ وذلك لأنّها أجسام منتفع بها‏,‏ غير متعرّضة للتّعفن والفساد‏,‏ فوجب أن يقضى بطهارتها‏,‏ كالجلود المدبوغة‏,‏ ولأنّ نجاسة الميتات ليست لأعيانها‏,‏ بل لما فيها من الدّماء السّائلة والرطوبات النّجسة‏,‏ وهي ليست موجودةً في هذه الأشياء‏.‏

د - إطعام الميتة للحيوان‏:‏

25 - اختلف الفقهاء في جواز الانتفاع بالميتة بإطعامها للدّوابّ والبهائم أو الكلب المعلّم والطّير والبازي المعلّم ونحوهم على ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ للحنفيّة و الشّافعيّة وأحمد في رواية عنه‏:‏ وهو عدم جواز ذلك‏,‏ لأنّه إذا أطعم الميتة للحيوان فقد انتفع بتلك الميتة‏,‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ‏}‏ دال على عدم جواز الانتفاع بها‏.‏

قال الجصّاص‏:‏ قال أصحابنا‏:‏ لا يجوز الانتفاع بالميتة على وجهٍ‏,‏ ولا يطعمها الكلاب والجوارح‏,‏ لأنّ ذلك ضرب من الانتفاع بها‏,‏ وقد حرّم اللّه الميتة تحريماً مطلقاً معلّقاً بعينها‏,‏ مؤكّداً به حكم الحظر‏,‏ فلا يجوز الانتفاع بشيء منها إلّا أن يخصّ شيء منها بدليل يجب التّسليم به‏.‏

وقال ابن قدامة‏:‏ قال أحمد‏:‏ لا أرى أن يطعم الكلب المعلّم الميتة‏,‏ ولا الطّير المعلّم‏,‏ لأنّه يضريه على الميتة‏,‏ فإن أكل الكلب فلا أرى صاحبه حرجاً‏,‏ ولعلّ أحمد كره أن يكون الكلب المعلّم إذا صاد وقتل أكل منه‏,‏ لتضريته بإطعامه الميتة‏.‏

والثّاني‏:‏ للمالكيّة و الحنابلة‏,‏ وهو جواز إطعام كلبه وطيره البازي المعلّم الميتة‏,‏ وكذا علف دوابّه الّتي لا يؤكل لحمها الميتة‏,‏ لأنّ هذه الحيوانات ليست بمأكولة اللّحم‏,‏ ولأنّه استعمال للميتة فيما يجري مجرى الإتلاف‏,‏ وليس فيه ضرر‏.‏

قال الحنابلة‏:‏ وكذا يباح أن يعلف ما يؤكل لحمه من الحيوان كالأنعام الأطعمة النّجسة إذا كان لا يراد ذبحها أو حلبها قريباً‏,‏ لأنّه يجوز تركها في المرعى على اختيارها‏,‏ ومعلوم أنّها ترعى النّجاسة‏,‏ ويحرم علفها النّجاسة إذا كانت تؤكل قريباً أو تحلب قريباً‏,‏ وإن تأخّر الذّبح أو الحلب‏.‏

والثّالث‏:‏ لبعض المالكيّة‏,‏ وهو جواز علف الدّوابّ والحيوانات مطلقاً الطّعام النّجس‏,‏ ما أكل لحمه منها وما لم يؤكل‏,‏ قال ابن الجلّاب‏:‏ ولا بأس بعلف الدّوابّ الطّعام النّجس ما أكل لحمه وما لم يؤكل لحمه‏.‏

هـ - طلاء الجلود والسفن و الاستصباح بدهن الميتة‏:‏

26 - اختلف الفقهاء في جواز ذلك على ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ لجمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وهو عدم جواز الانتفاع بدهن الميتة باستصباح ولا غيره‏,‏ ولا أن تطلى به ظهور السفن والجلود‏.‏

واستدلوا على ذلك بما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «إنّ اللّه ورسوله حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل‏:‏ يا رسول اللّه‏,‏ شحوم الميتة فإنّه يطلى بها السفن‏,‏ ويدهن بها الجلود‏,‏ ويستصبح بها النّاس ‏؟‏ فقال‏:‏ لا‏,‏ هو حرام‏.‏ ثمّ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ قاتل اللّه اليهود‏,‏ إنّ اللّه لمّا حرّم شحومها‏,‏ جملوه ثمّ باعوه فأكلوا ثمنه»‏.‏ حيث بيّن النّبي عليه الصلاة والسلام أنّ اللّه إذا حرّم شيئاً حرّمه على الإطلاق‏,‏ ودخل تحت تحريمه سائر ضروب الانتفاع به‏,‏ ومنها البيع‏.‏

والثّاني‏:‏ لعطاء وهو جواز دهن ظهور السفن بشحوم الميتة‏.‏

والثّالث‏:‏ لابن تيميّة وهو أنّه يجوز الانتفاع بالنّجاسات‏,‏ وسواء في ذلك شحم الميتة وغيره‏.‏ وحكى أنّ الإمام أحمد أومأ إلى ذلك في رواية ابن منصور‏.‏

الميتة المستثناة من التّحريم

27 - ذهب جمهور الفقهاء إلى طهارة ميتة البحر وجواز أكلها لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ‏}‏‏,‏ وقد صحّ عن أبي بكر الصّدّيق وابن عبّاسٍ وجماعة من الصّحابة رضي الله عنهم أنّهم قالوا‏:‏ إنّ صيد البحر ما صيد منه‏,‏ وطعامه ما مات فيه‏.‏

ولقوله صلى الله عليه وسلم في ماء البحر‏:‏ «هو الطّهور ماؤه‏,‏ الحل ميتته»‏.‏

كما ذهب الجمهور إلى طهارة ميتة الجراد‏,‏ وجواز أكلها لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أحلّت لنا ميتتان ودمان‏,‏ فأمّا الميتتان فالحوت والجراد‏,‏ وأمّا الدّمان فالكبد والطّحال»‏.‏ وقد علّل ابن القيّم ذلك الحكم الاستثنائيّ بقوله‏:‏ فإنّ الميتة إنّما حرّمت لاحتقان الرطوبات والفضلات والدّم الخبيث فيها‏,‏ والذّكاة لمّا كانت تزيل ذلك الدّم والفضلات كانت سبب الحلّ‏,‏ وإلّا فالموتُ لا يقتضي التّحريم‏,‏ فإنّه حاصل بالذّكاة كما يحصل بغيرها‏,‏ وإذا لم يكن في الحيوان دم وفضلات تزيلها الذّكاة لم يحرم بالموت‏,‏ ولم يشترط لحلّه ذكاة كالجراد‏,‏ ولهذا لا ينجس بالموت ما لا نفس له سائلةً كالذباب والنّحلة ونحوهما‏,‏ والسّمك من هذا الضّرب‏,‏ فإنّه لو كان له دم وفضلات تحتقن بموته لم يحلّ لموته بغير ذكاة‏.‏

‏(‏ر‏:‏ أطعمة ف / 15‏,‏ 53‏)‏‏.‏

ميراث

انظر‏:‏ إرثٌ‏.‏

مِيزاب

التّعريف

1 - الميزاب في اللغة‏:‏ قناة أو أنبوبة يصرف بها الماء من سطح بناء أو موضع عال‏.‏ والمرزاب والمزراب بمعنى الميزاب‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالميزاب

يتعلّق بالميزاب أحكام منها‏:‏

إخراجه إلى الطّريق الأعظم

2 - ذهب جمهور الفقهاء الحنفيّة و المالكيّة و الشّافعيّة وهو قول عند الحنابلة إلى أنّه يجوز إخراج الميزاب إلى الطّريق الأعظم لأنّ «عمر رضي الله عنه خرج في يوم جمعة‏,‏ فقطر ميزاب عليه للعبّاس فأمر به فقلع‏,‏ فقال العبّاس‏:‏ قلعت ميزابي‏,‏ واللّه ما وضعه حيث كان إلّا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بيده‏.‏ فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ واللّه لا يضعه إلّا أنت بيدك‏,‏ ثمّ لا يكون لك سلّم إلّا عمر‏.‏ قال‏:‏ فوضع العبّاس رجليه على عاتقي عمر ثمّ أعاده حيث كان»‏.‏ وما فعله رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فلغيره فعله ما لم يقم دليل على اختصاصه به‏,‏ ولأنّ الحاجة تدعو إلى ذلك ولا يمكنه رد مائه إلى الدّار‏,‏ ولأنّ النّاس يعملون ذلك في جميع بلاد الإسلام من غير نكير‏,‏ وذلك إذا لم يكن فيه ضرر‏,‏ وزاد أبو حنيفة وأبو يوسف‏:‏ ولم يمنعه أحد من النّاس‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ لا يجوز إخراج الميازيب إلى الطّريق الأعظم‏,‏ ولا يجوز إخراجها إلى درب نافذٍ إلّا بإذن الإمام ونائبه وأهله‏,‏ لأنّ هذا تصرف في هواء مشترك بينه وبين غيره بغير إذنه فلم يجز سواء ضرّ بالمارّة أو لا‏,‏ لأنّه إذا لم يضرّ حالاً فقد يضر مآلاً‏,‏ كما لو كان الطّريق غير نافذٍ ولأنّه يضر بالطّريق وأهلها‏,‏ فلم يجز كبناء دكّة فيها أو جناح يضر بأهلها‏,‏ ولا يخفى ما فيه من الضّرر فإنّ ماءه يقع على المارّة وربّما جرى فيه البول أو ماء نجسٌ فينجّسهم‏,‏ ويزلق الطّريق ويجعل فيها الطّين‏.‏

والتّفصيل في ‏(‏طريق ف / 14‏)‏‏.‏

الخصومة في الميزاب

الخصومة في إخراج الميازيب إلى الطّريق

3 - قال أبو حنيفة وأبو يوسف‏:‏ من أراد أن يخرج إلى الطّريق الأعظم ميزاباً فلكلّ أحد من عرض النّاس مسلماً كان أو ذمّيّاً أن يمنعه من الوضع سواء كان فيه ضرر أو لم يكن إذا أراد الوضع بغير إذن الإمام لأنّ فيه الافتيات على رأي الإمام فيما إليه تدبيره فلكلّ أحد أن ينكر عليه‏.‏

وقال المالكيّة و الشّافعيّة و الحنابلة في قول ومحمّد من الحنفيّة‏:‏ ليس لأحد حق المنع إذا لم يكن فيه ضرر‏,‏ لأنّه مأذون في إحداثه شرعاً فهو كما لو أذن له الإمام‏.‏

الخصومة في رفع الميزاب

4 - قال أبو حنيفة‏:‏ من أخرج إلى طريق العامّة ميزاباً فلكلّ أحد من أهل الخصومة - كالمسلم البالغ العاقل الحرّ أو الذّمّيّ - مطالبته بالنّقض لأنّ لكلّ منهم المرور بنفسه وبدوابّه فيكون له الخصومة بنقضه كما في الملك المشترك‏.‏

وقال أبو يوسف ومحمّد‏:‏ ليس لأحد ذلك‏,‏ أمّا على قول محمّد فظاهر لأنّه جعله كالمأذون من الإمام فلا يرفعه أحد‏,‏ وأمّا أبو يوسف فإنّه يقول كان قبل الوضع لكلّ أحد يد فيه فالّذي يحدث يريد أن يجعلها في يد نفسه خاصّةً‏,‏ أما بعد الوضع فقد صار في يده فالّذي يخاصمه يريد إبطال يده من غير دفع الضّرر عن نفسه فهو متعنّت‏.‏

وقال الأتاسيّ‏:‏ دور في طريق لها ميازيب من القديم منصّبة على ذلك الطّريق‏,‏ ومنه تمتد إلى عرصة واقعة في أسفله جارية من القديم‏,‏ ليس لصاحب العرصة سد ذلك المسيل القديم‏,‏ فإنّ سدّه يرفع السّدّ من طرف الحاكم ويعاد إلى وضعه القديم لأنّه يريد بالسّدّ دفع الضّرر عن عرصته وفي ذلك ضرر بالطّريق الّذي تنصب إليه الميازيب وهو لا يجوز ؛ لأنّ ذلك الطّريق إن كان خاصاً ففيه دفع الضّرر الخاصّ بمثله والضّرر لا يزال بمثله‏,‏ وإن كان عاماً ففيه دفع الضّرر الخاصّ بالضّرر العامّ‏,‏ ويتحمّل الضّرر الخاص لدفع الضّرر العامّ‏,‏ ولا سبيل إلى رفع الميازيب عن الطّريق الخاصّ لأنّها قديمة ولا عن الطّريق العامّ لأنّه لم يتحقّق الضّرر حيث كان مسيل ماء إلى العرصة المذكورة قديماً‏,‏ فاتّضح أنّ المراد بالطّريق ما يعم الخاصّ والعامّ كما هو مقتضى الإطلاق‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ من نصب ميزاباً يضر بالمارّة فلكلّ أحد من النّاس مطالبته بإزالته‏,‏ لأنّه من إزالة المنكر‏,‏ لكن لا يزيله إلّا الحاكم لا غيره‏,‏ لما فيه من توقع الفتنة‏.‏

الاختلاف في حقّ إجراء ماء الميزاب

5 - قال الحنفيّة‏:‏ إذا كان الميزاب منصوباً إلى دار رجل واختلفا في حقّ إجراء الماء وإسالته فإن كان في حال عدم جريان الماء لا يستحق إجراء الماء وإسالته إلّا ببيّنة وليس لصاحب الدّار أيضاً أن يقطع الميزاب‏.‏ وحكى الفقيه أبو اللّيث‏:‏ أنّهم استحسنوا أنّ الميزاب إذا كان قديماً وكان تصويب السّطح إلى داره وعلم أنّ التّصويب قديم وليس بمحدث أن يجعل له حقّ التّسييل‏,‏ وإن اختلفا في حال جريان الماء قيل‏:‏ القول لصاحب الميزاب ويستحق إجراء الماء‏,‏ وقيل‏:‏ لا يستحق‏,‏ فإن أقام البيّنة على أنّ له حقّ المسيل وبيّنوا أنّه لماء المطر من هذا الميزاب فهو لماء المطر وليس له أن يسيل ماء الاغتسال والوضوء فيه‏,‏ وإن بيّنوا أنّه لماء الاغتسال والوضوء فهو كذلك وليس له أن يسيل ماء المطر فيه وإن قالوا له فيها حق مسيل ماء ولم يبيّنوا لماء المطر أو غيره صحّ‏,‏ والقول لربّ الدّار مع يمينه أنّه لماء المطر أو لماء الوضوء والغسالة‏,‏ وقال بعض مشايخ الحنفيّة‏:‏ لا تقبل هذه الشّهادة في المسيل‏,‏ وفي الطّريق تقبل‏.‏

الوضوء والغسل بماء الميزاب

6 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ من وقف تحت ميزاب أو تحت مطر ناوياً الطّهارة ووصل الماء إلى شعره وبشره أجزأه عن وضوئه أو غسله‏.‏

وذهب المالكيّة والمزنيّ إلى أنّه لا يكفي في الغسل إفاضة الماء على الجسد دون الدّلك‏.‏

قال المتولّي والروياني من الشّافعيّة‏:‏ في ماء الميزاب الّذي يظن نجاسته ولا يتيقّن طهارته ولا نجاسته فيه قولان‏:‏ والمختار الجزم بطهارته‏,‏ لأنّه إن كان هناك نجاسة انغسلت‏.‏

سقوط الميزاب وأثره في الضّمان

7 - ذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة و الشّافعيّة و الحنابلة - إلى أنّه إذا أشرع في الطّريق ميزاباً فسقط على إنسان فعطب فالدّية على عاقلته لأنّه مسبّب لتلفه متعد بشغله هواء الطّريق وهذا من أسباب الضّمان‏.‏

وفصّل الحنفيّة والشّافعيّة فقال الحنفيّة‏:‏ إن أخرج ميزاباً إلى الطّريق فسقط على رجل فقتله ينظر‏:‏ إن أصابه الطّرف الّذي كان في الحائط لا ضمان فيه لأنّه وضع ذلك الطّرف في ملكه ولم يكن تعدّياً‏,‏ وإن أصابه الطّرف الخارج من الحائط ضمن صاحب الميزاب لأنّه متعدٍ في ذلك حيث شغل به هواء الطّريق لأنّه يمكنه أن يركّبه في الحائط‏,‏ ولا كفّارة عليه ولا يحرم في الميراث لأنّه ليس بقاتل حقيقةً‏,‏ وإن لم يعلم أيّهما أصابه ففي القياس لا شيء عليه لوقوع الشّكّ في الضّمان‏,‏ وفي الاستحسان يضمن النّصف‏,‏ وإن أصابه الطّرفان جميعاً وعلم ذلك وجب نصف الدّية وهدر النّصف‏,‏ ومن صبّ الماء في ميزاب له وتحت الميزاب متاع لغيره يفسد به كان ضامناً استحساناً‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ إن سقط الميزاب على شيء فأتلفه كان مضموناً في الجديد لأنّه ارتفاق بالشّارع‏,‏ فجوازه مشروطٌ بسلامة العاقبة‏.‏ فإن كان بعض الميزاب في الجدار وبعضه خارجاً عنه فسقط الخارج منه كله أو بعضه فأتلف شيئاً فكل الضّمان يجب لأنّه تلف بما هو مضمون عليه خاصّةً‏,‏ وإن سقط كل الميزاب داخله وخارجه بأن قطع من أصله فنصف الضّمان يجب في الأصحّ‏,‏ لأنّ التّلف حصل بالدّاخل في ملكه وهو غير مضمون وبالخارج وهو مضمون فوزّع على النّوعين سواء أكانت الإصابة بالدّاخل والخارج استويا بالقدر أم لا‏,‏ ومقابل الأصحّ يوزّع على الدّاخل والخارج فيجب قسط الخارج‏,‏ ويكون التّوزيع بالوزن وقيل‏:‏ بالمساحة‏.‏

ولو أصاب الماء النّازل من الميزاب شيئاً فأتلفه ضمن نصفها إن كان بعضه في الجدار وبعضه خارجاً‏,‏ ولو اتّصل ماؤه بالأرض ثمّ تلف به إنسان قال البغويّ‏:‏ القياس التّضمين أيضاً‏.‏

وقال المالكيّة وهو القول القديم عند الشّافعيّة‏:‏ إن سقط ميزابه على رأس إنسان فلا ضمان عليه‏,‏ لأنّه فعل ما أذن له فيه‏,‏ ولأنّه لضرورة تصريف المياه‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ من أخرج ميزاباً في درب نافذٍ بغير إذن الإمام أو في درب غير نافذٍ بغير إذن أهله فسقط على إنسان فأتلفه ضمنه‏,‏ لأنّه تلف بسبب متعد به‏,‏ وإن كان بإذن الإمام بلا ضرر أو بإذن أهل غير النّافذ فلا ضمان لعدم العدوان‏.‏

ميزان

التّعريف

1 - الميزان من وزن الشّيء وزناً وزِنةً‏.‏

قال أبو منصور‏:‏ رأيت العرب يسمون الأوزان الّتي يوزن بها التّمر وغيره المسوَّاةَ من الحجارة والحديد الموازين‏,‏ واحدها ميزان‏,‏ وهي المثاقيل واحدها مثقال‏,‏ ويقال للآلة الّتي يوزن بها الأشياء ميزان أيضاً‏.‏

وجائزٌ أن يقال للميزان الواحد موازين وفي التّنزيل‏:‏ ‏{‏وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا‏}‏ أي نضع الميزان القسط‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الكيل‏:‏

2 - الكيل هو من كال يكيل كيلاً‏.‏ والاسم كيلة‏,‏ والمكيال ما يكال به الأشياء والكيل مثله‏,‏ والجمع أكيال‏.‏

والصّلة بين الميزان والكيل‏:‏ أنّهما أصل المقادير الشّرعيّة وأكثر آلات التّقدير استعمالاً‏.‏

ب - المثقال‏:‏

3 - المثقال معيار يوزن به الأشياء‏,‏ ومثقال الشّيء ميزانه من مثله‏,‏ والمثقال واحد مثاقيل الذّهب‏,‏ والمثقال وزن درهم وثلاثة أسباع درهم‏,‏ أو هو اسم للمقدار المقدّر به‏.‏ والصّلة بين الميزان والمثقال هي أنّ كلاً منهما يقدّر به الأشياء‏.‏

ج - الرّطل‏:‏

4 - الرّطل معيار يوزن به الأشياء وكسره أشهر من فتحه‏,‏ وقال الفقهاء‏:‏ إنّ الرّطل إذا أطلق يحمل على الرّطل البغداديّ وهو اثنتا عشرة أوقيّةً لأنّه هو الرّطل الشّرعي‏.‏

والعلاقة بين الرّطل والميزان‏:‏ أنّ كلاً منهما تقدّر به الأشياء‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالميزان

5 - الميزان إحدى الآلتين لتقدير المقدّرات الشّرعيّة وهما الكيل والميزان ولا خلاف بين المسلمين في أنّ البخس في الميزان بالتّطفيف أو التّنقيص حرام وتكرّر في القرآن النّهي عن ذلك والأمر بإيفائهما‏,‏ وأوعد على المطفّفين الويل‏:‏ وهو الهلاك أو العذاب‏,‏ واعتبر أي إخلال فيهما بالنّقص أو التّطفيف إفساداً في الأرض‏,‏ والوعيد على فاعلي البخس في الميزان يشير إلى أنّه من الكبائر‏,‏ قال تعالى ‏{‏وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ‏}‏‏.‏

والويل واد من النّار أو هو الهلاك‏.‏

والتّطفيف‏:‏ البخس في الكيل والميزان‏,‏ وقال جلّ شأنه حكايةً عن نبيّ اللّه شعيب عليه وعلى نبيّنا الصّلاة والسّلام مع قومه‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ، وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ‏}‏‏.‏

والعثو‏:‏ الإفساد مطلقاً سواء كان تنقيص الحقوق أو غيره فهو من قبيل التّعميم بعد التّخصيص‏,‏ ويقال أيضاً عثى عثيّاً‏,‏ والعثي المبالغة في الفساد‏.‏

فجعل تجاوز الحدّ في هذه المعاملة إفساداً في الأرض‏,‏ لأنّه تغيير لما وضعه اللّه في قانون سنن المعاملة بالعدل وأصلح به أحوال أهل الأرض‏.‏

الميزان المعتبر في تقدير الموزونات

6 - الأصل أنّ الميزان المعتبر في معرفة ما هو موزون وما هو مكيل وما يقدّر شرعاً هو ما كان مألوفاً في مكّة في عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لحديث‏:‏ «المكيال مكيال أهل المدينة والوزن وزن أهل مكّة»‏,‏ وللفقهاء في ذلك تفصيل‏.‏

قال الحنفيّة‏:‏ ما نصّ الشّارع من الأشياء على كونه موزوناً كذهب وفضّة فهو كذلك لا يتغيّر أبداً‏,‏ وما نصّ على كونه مكيلاً كبرّ وشعير وتمر وملح فإنّه كذلك لا يتغيّر أبداً ولو مع التّساوي‏,‏ لأنّ النّصّ أقوى من العرف فلا يترك الأقوى بالأدنى‏,‏ وما لم ينصّ الشّارع عليه حمل على العرف‏,‏ وعن أبي يوسف اعتبار العرف مطلقاً وإن كان خلاف النّصّ لأنّ النّصّ على ذلك الكيل في الشّيء أو الوزن فيه ما كان في ذلك الوقت‏,‏ إلّا لأنّ العادة إذ ذاك كذلك وقد تبدّلت فتبدّل الحكم‏.‏

ونصّ المالكيّة على أنّ ما ورد عن الشّارع في شيء أنّه كان يكال كالقمح فالمماثلة فيه بالكيل لا بالوزن وما ورد عنه في شيء أنّه كان يوزن كالنّقد فالمماثلة فيه بالوزن لا بالكيل فلا يجوز بيع قمح بقمح وزناً ولا نقد بنقد كيلاً وإن لم يرد عن الشّرع معيار معيّن في شيء من الأشياء فبالعادة العامّة كاللّحم فإنّه يوزن في كلّ بلد‏,‏ أو العادة الخاصّة كالسّمن واللّبن والزّيت والعسل فإنّه يختلف باختلاف البلاد‏,‏ ويعمل في كلّ محل بعادته فإن عسر الوزن فيما هو معياره لسفر أو بادية جاز التّحرّي إن لم يتعذّر التّحرّي لكثرة‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏ربا ف / 27‏,‏ ومقادير‏)‏‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ كل شيء من الموزون والمكيل إنّما يأتم النّاس فيهما بأهل مكّة وأهل المدينة وإن تغيّر في سائر الأمصار فما كان موزوناً بعهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مقدّراً بالوزن يُقدّر به في سائر الأمصار ولا يجوز تقديره بالكيل‏,‏ ويوزن بالوزن السّائد في مكّة في عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وما كان مكيلاً في عهده صلى الله عليه وسلم يقدّر بالكيل في سائر البلدان وبمعيار المدينة ولا يقدّر بالوزن‏,‏ لظهور أنّه صلى الله عليه وسلم اطّلع عليه وأقرّه على ذلك ولا عبرة بما أحدث بعده‏.‏

وما جهل كونه مكيلاً أو موزوناً أو كون الغالب منه أحدهما في عهده صلى الله عليه وسلم أو وجوده فيه بالحجاز أو علم وجوده بغيره أو حدوثه بعده‏,‏ أو عدم استعمالهما فيه أو الغالب فيه ولم يتعيّن أو نسي يعتبر فيه عرف الحجاز حالة البيع فإن لم يكن لهم عرف فيه فإن كان أكبر جرماً من التّمر المعتدل فموزون جزماً إذ لم يعلم في ذلك العهد الكيل في ذلك وإلّا فإن كان مثله كاللّوز أو دونه فأمره محتمل‏,‏ لكنّ قاعدة أنّ ما لم يحدّ شرعاً يحكّم فيه العرف قضت بأنّه يراعى فيه عادة بلد البيع حالة البيع فإن اختلفت فالّذي يظهر اعتبار الأغلب فيه فإن فقد الأغلب ألحق بالأكثر شبهاً‏,‏ فإن لم يوجد جاز فيه الكيل والوزن‏.‏ وقيل‏:‏ الكيل لأنّه الأغلب فيما ورد‏,‏ وقيل‏:‏ الوزن لأنّه أضبط‏,‏ وقيل‏:‏ يتخيّر بالتّساوي‏,‏ وقيل‏:‏ إن كان له أصل معتبر المعيار أعتبر أصله‏.‏

وذهب الحنابلة إلى أنّ مرجع الكيل عرف المدينة على عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم ومرجع الوزن عرف مكّة على عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم لما روى عبد اللّه بن عمر أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «المكيال مكيال المدينة والوزن وزن مكّة» وكلامه صلى الله عليه وسلم إنّما يحمل على تبيين الأحكام فما كان مكيالاً بالمدينة في زمنه صلى الله عليه وسلم انصرف التّحريم بتفاضل الكيل إليه فلا يجوز أن يتغيّر بعد ذلك وهكذا الموزون‏,‏ وما لا عرف له بهما أي بمكّة والمدينة أعتبر عرفه في موضعه لأنّ ما لا حدّ له في الشّرع يرجع فيه إلى العرف كالحرز والقبض‏,‏ فإن اختلفت البلاد الّتي هي مواضعه أعتبر الغالب منها فإن لم يكن غالب ردّ إلى أقرب الأشياء به شبهاً بالحجاز لأنّ الحوادث ترد إلى أشبه المنصوص عليه بها‏.‏

عقوبة التّطفيف في الميزان

7 - الغشّ في الوزن بالتّطفيف أو التّنقيص جريمة باتّفاق المسلمين وورد فيه وعيد شديد في عدّة آياتٍ من القرآن الكريم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ، أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ، لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ وفي الحديث‏:‏ «من غشّنا فليس منّا»‏.‏

ولم يحدّد الشّارع عقوبةً محدّدةً لهذه الجريمة في الدنيا وما كان كذلك فعقوبته التّعزير كما قال الفقهاء‏:‏ إنّ كلّ معصية ليس فيها عقوبة مقدّرة من الشّارع فعقوبتها التّعزير بما يراه الحاكم‏,‏ وإن كانت من الكبائر‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏تعزير ف / 13‏)‏‏.‏

مَيْسِر

التّعريف

1 - الميسر لغةً‏:‏ قمار العرب بالأزلام‏,‏ وقال صاحب القاموس هو اللّعب بالقداح أو هو النّرد‏,‏ أو كل قمار‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

وقال ابن حجر المكّي‏:‏ الميسر‏:‏ القمار بأيّ نوع كان‏,‏ وقال المحلّي‏:‏ صورة القمار المحرّم التّردد بين أن يغنم وأن يغرم‏.‏

وقال مالك‏:‏ الميسر‏:‏ ميسران‏,‏ ميسر اللّهو وميسر القمار فمن ميسر اللّهو النّرد والشّطرنج والملاهي كلها‏,‏ وميسر القمار ما يتخاطر النّاس عليه‏.‏ وبمثل ذلك قال ابن تيمية‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الأزلام‏:‏

2 - الأزلام عيدان مخصّصة للاستقسام بها‏,‏ والاستقسام بالأزلام هو طلب معرفة ما قُسِم للشّخص ‏"‏ أي ما قدّر له ‏"‏ من خير أو شر‏,‏ وقد تستعمل في القمار‏.‏

فالمعنى المشترك في كل من الميسر والاستقسام بالأزلام هو التّردد بين أمور متعدّدة للفرد‏,‏ لكنّ الفرق بينهما هو أنّ الاستقسام يستخدم للتّصرف لا لأخذ المال كما في الميسر‏.‏

ب - السَّبَق‏:‏

3 - السّبق - بفتحتين - لغةً‏:‏ الخطر‏.‏

واصطلاحاً‏:‏ هو ما يتراهن عليه المتسابقان‏.‏

وهو أخص من الميسر‏.‏

ج - الرِّهان‏:‏

4 - الرّهان والمراهنة‏:‏ المخاطرة والمسابقة على الخيل‏.‏

وتراهنا إذا أخرج كل واحد رهناً ليفوز السّابق بالجميع إذا غلب‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي للرّهان عن المعنى اللغويّ‏.‏

والصّلة هي‏:‏ أنّ الرّهان نوع من الميسر‏,‏ وهو أخص من الميسر‏.‏

د - الغرر‏:‏

5 - الغَرَر - بفتحتين - لغةً‏:‏ اسم مصدر من التّغرير‏,‏ وهو الخطر والخدعة‏.‏

واصطلاحاً‏:‏ ما يكون مجهول العاقبة لا يدرى أيكون أم لا‏.‏

والعلاقة بين الغرر والميسر ظاهرة‏,‏ وهي أنّ الغرر أعم من الميسر‏.‏

هـ - النّرد وأشباهه‏:‏

6 - جاء في لسان العرب‏:‏ النّرد‏:‏ معروف شيء يلعب به فارسيّ معرّب وليس بعربيّ وهو النّردشير‏.‏

وقال القليوبي‏:‏ النّرد هو المعروف الآن بالطّاولة‏.‏

ومثله ما كان من طبيعته وهو ما يعبّر عنه بعض الفقهاء بعبارة ‏"‏ أشباه النّرد ‏"‏‏.‏

والعلاقة هي أنّ النّرد وأشباهه قد يستعمل للميسر‏.‏

الحكم التّكليفي

7 - اتّفق الفقهاء على تحريم الميسر في الجملة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏‏.‏

حكمة تحريم الميسر

8 - جاء النّص على الحكمة في تحريم الميسر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ‏}‏‏,‏ كما جاء النّص على أنّ في الميسر إثماً وذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا‏}‏‏.‏

قال ابن تيمية‏:‏ إنّ مفسدة الميسر أعظم من مفسدة الرّبا لأنّه يشتمل على مفسدتين‏:‏ مفسدة أكل المال بالحرام‏,‏ ومفسدة اللّهو الحرام‏,‏ إذ يصد عن ذكر اللّه وعن الصّلاة ويوقع في العداوة والبغضاء‏,‏ ولهذا حرّم الميسر قبل تحريم الرّبا‏.‏

وقال ابن حجر المكّي‏:‏ سبب النّهي عن الميسر وتعظيم أمره أنّه من أكل أموال النّاس بالباطل الّذي نهى اللّه عنه بقوله‏:‏ ‏{‏لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ‏}‏‏.‏

ثمّ ذكر حديث‏:‏ «من حلف فقال في حلفه واللّاتي والعزّى فليقل لا إله إلّا اللّه ومن قال لصاحبه تعال أقامرك فليتصدّق»‏.‏ وقال‏:‏ فإذا اقتضى مطلق القول طلب الكفّارة والصّدقة المنبئة عن عظيم ما وجبت له أو سنّت فما ظنك بالفعل والمباشرة‏.‏

أقسام الميسر

9 - قسّم عدد من الفقهاء الميسر إلى ميسر لهوٍ‏,‏ وهو ما ليس فيه مال‏,‏ وميسر قمار‏,‏ وهو ما فيه مال‏,‏ وممّن أشتهر عنه هذا التّقسيم من المتقدّمين الإمام مالك ومن المتأخّرين ابن تيمية وابن القيّم‏.‏

قال الإمام مالك‏:‏ الميسر ميسران‏:‏ ميسر اللّهو فمنه النّرد والشّطرنج والملاهي كلها‏,‏ وميسر القمار‏,‏ وهو ما يتخاطر النّاس عليه‏,‏ وسئل القاسم بن محمّد بن أبي بكر‏:‏ ما الميسر ‏؟‏ فقال‏:‏ كل ما ألهى عن ذكر اللّه وعن الصّلاة فهو ميسر‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالميسر

حكم ميسر اللّهو

10 - ميسر اللّهو كاللّعب بالنّرد والشّطرنج دون أن يصاحبه مال‏,‏ واختلف الفقهاء في حكمه‏.‏

وتفصيل ذلك ينظر في مصطلح ‏(‏لعب ف / 4 - 5‏)‏‏.‏

حكم ميسر القمار

11 - اتّفق الفقهاء على تحريم ميسر القمار‏.‏

وقال الشّافعيّة إن شرط فيه مال من الجانبين بحيث يكون المال لمن غلب من اللّاعبين‏,‏ فهو القمار المحرّم‏,‏ وصرّحوا بأنّه حينئذٍ كبيرة من الكبائر‏,‏ وقال الرّملي منهم‏:‏ والمحرّم العقد‏,‏ وأخذ المال‏,‏ لأنّه غصب من الجانبين أو أحدهما‏.‏

تصدق من طلب المقامرة

12 - من الأحكام المتعلّقة بالميسر تصدق من طلب المقامرة‏,‏ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من حلف فقال في حلفه‏:‏ واللّاتي والعزّى فليقل لا إله إلّا اللّه ومن قال لصاحبه تعال أقامرك فليتصدّق»‏.‏

قال النّووي‏:‏ قال العلماء‏:‏ أمر بالصّدقة تكفيراً لخطيئته في كلامه بهذه المعصية‏,‏ وقال الخطّابي‏:‏ معناه فليتصدّق بمقدار ما أمر أن يقامر به‏.‏

قال النّووي‏:‏ والصّواب الّذي عليه المحقّقون - وهو ظاهر الحديث - أنّه لا يختص بذلك المقدار بل يتصدّق بما تيسّر ممّا ينطلق عليه اسم الصّدقة‏,‏ ويؤيّده رواية‏:‏ ‏"‏ فليتصدّق بشيء ‏"‏‏.‏

الكسب النّاشئُ عن الميسر

13 - ما يكسبه المقامر هو كسب خبيثٌ‏,‏ وهو من المال الحرام مثل كسب المخادع والمقامر‏,‏ والواجب في الكسب الخبيث تفريغ الذّمّة منه بردّه إلى أربابه إن علموا وإلّا إلى الفقراء‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏كسب ف / 17‏,‏ حسبة ف / 34‏)‏‏.‏

شراء وبيع أدوات الميسر

14 - ذهب جمهور الفقهاء ‏"‏ المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف ومحمّد من الحنفيّة‏"‏ إلى أنّ بيع آلات اللّهو باطل لا ينعقد وفي حكم آلات اللّهو النّرد والشّطرنج واستدلوا لذلك بأحاديث منها‏:‏ ما رواه ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

«ثمن الخمر حرام‏,‏ ومهر البغيّ حرام‏,‏ وثمن الكلب حرام والكوبة حرام وإن أتاك صاحب الكلب يلتمس ثمنه فاملأ يديه تراباً‏,‏ والخمر والميسر وكل مسكر حرام»، قال الخطّابي‏:‏ وفي هذا بيان بطلان كلّ حيلة يحتال بها توصلاً إلى محرّم‏.‏

وذهب أبو حنيفة إلى أنّ بيعها صحيح مكروه تحريماً‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏بيع منهيّ عنه ف / 19‏)‏‏.‏

حكم السّلام على لاعب الميسر

15 - ذهب جمهور الفقهاء إلى كراهة السّلام على الفسّاق المجاهرين بفسقهم حين انشغالهم بالفسق‏,‏ كلاعب القمار‏.‏

وذهب بعضهم إلى أنّ السّلام عليهم لا يكره إذا نوى أن يشغلهم عمّا هم فيه‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏سلام ف / 25‏)‏‏.‏

شهادة لاعب الميسر

16 - ميسر القمار‏,‏ وهو ما كان على مال فعله كبيرة فترد الشّهادة به‏,‏ ولو بالمرّة الواحدة‏.‏ أمّا ميسر اللّهو‏,‏ فهو صغيرة فلا ترد الشّهادة به إلّا مع الإصرار‏.‏

قال المرغيناني‏:‏ إن قامر بالشّطرنج تسقط عدالته وإن لم يقامر لا تسقط لأنّه متأوّل فيه‏.‏ وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏لعب ف / 6‏)‏‏.‏

عقوبة لاعب الميسر

17 - على وليّ الأمر العمل على منع المعاصي‏,‏ ومنها الميسر‏,‏ وعليه تعزير من ثبت عليه ذلك‏,‏ لأنّ التّعزير إنّما يكون في كلّ معصية لا حدّ فيها‏,‏ ولا كفّارة‏.‏

انظر‏:‏ ‏(‏تعزير ف / 1‏)‏‏.‏

مَيْسَُرة

التّعريف

1 - الميسرة في اللغة بضمّ السّين وفتحها‏:‏ ضد العسر‏,‏ ومثله‏:‏ الميسر واليسر‏,‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً‏}‏‏.‏

والميسرة واليسار عبارة عن الغنى‏,‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ‏}‏‏.‏

ولا يخرج معناه الاصطلاحي عن معناه اللغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

العسر‏:‏

2 - العسر في اللغة‏:‏ نقيض اليسر‏,‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً‏}‏‏.‏

والعسرة‏:‏ تعسر وجود المال‏,‏ وأعسر فلان‏:‏ أضاق‏,‏ ويوم عسير‏:‏ يتصعّب فيه الأمر ويشتد‏,‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ‏}‏، وعسرني الرّجل‏:‏ طالبني بشيء حين العسرة‏,‏ ومنه قيل للفقر‏:‏ عسر‏.‏

وأعسر الرّجل - بالألف - افتقر‏,‏ وعسر بالفتح‏:‏ قلّ سماحه في الأمور‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

والعلاقة بين العسر والميسرة الضّدّيّة‏.‏

الحكم الإجمالي

3 - اتّفق الفقهاء على أنّه إذا كان المدين ذا ميسرة‏,‏ وكان الدّين حالاً‏,‏ وطلبه صاحبه يجب عليه الوفاء بالدّين دون مماطلة أو تسويف‏,‏ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لي الواجد يحل عرضه وعقوبته»، فإن امتنع عن أداء ما عليه من الدّين مع الإمكان كان ظالماً لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مطل الغنيّ ظلم»‏.‏

وقد اختلف الفقهاء فيما يستحقه من العقوبة هل يحبسه أو يلازمه ‏؟‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏إعسار ف / 15‏)‏‏.‏

4 - أما إن كان المدين عاجزاً عن وفاء الدّين الحالّ بسبب إعساره الّذي ثبت عند القاضي‏,‏ أو عند الغريم فإنّه يستحب إنظاره إلى الميسرة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏، ولحديث بريدة الأسلميّ أنّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من أنظر معسراً فله بكلّ يوم مثله صدقة، قال‏:‏ ثمّ سمعته يقول‏:‏ من أنظر معسراً فله بكلّ يوم مثليه صدقة‏.‏ قلت‏:‏ سمعتك يا رسول اللّه تقول‏:‏ من أنظر معسراً فله بكلّ يوم مثله صدقة، ثمّ سمعتك تقول‏:‏ من أنظر معسراً فله بكلّ يوم مثليه صدقة ‏؟‏ قال‏:‏ له بكلّ يوم صدقة قبل أن يحلّ الدّين، فإذا حلّ الدّين فأنظره فله بكلّ يوم مثليه صدقة»، ولقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من أنظر معسراً أو وضع عنه أظلّه اللّه في ظلّه»، ولقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «حوسب رجل ممّن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير إلّا أنّه كان يخالط النّاس، وكان موسراً، فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر قال‏:‏ قال اللّه عزّ وجلّ نحن أحق بذلك منه، تجاوزوا عنه»‏.‏

‏(‏ر‏:‏ إعسار ف / 15‏)‏‏.‏

مِيعاد

انظر‏:‏ أجل‏.‏

مِيقات

انظر‏:‏ مواقيت‏.‏

مِيل

انظر‏:‏ مقادير‏.‏

مَيِّت

التّعريف

1 - الميت بتخفيف الياء وتشديدها في اللغة‏:‏ هو الّذي فارق الحياة ويجمع على أمواتٍ‏,‏ والميّت‏,‏ ‏"‏ بتشديد الياء ‏"‏‏:‏ من في حكم الميت وليس به‏,‏ ويجمع على أمواتٍ‏,‏ وموتى‏.‏ يقال‏:‏ مات يموت موتاً فهو ميّت بالتّثقيل والتّخفيف‏,‏ ويعدّى بالهمزة فيقال‏:‏ أماته اللّه‏,‏ وأمّا الحي فميّت بالتّثقيل لا غير‏,‏ وعليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ‏}‏‏,‏ أي سيموتون‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ الميت‏:‏ الّذي فارق الحياة‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الحي‏:‏

2 - الحي لغةً‏:‏ يقال‏:‏ حَيي يحيى حياةً من باب تعب فهو حيّ ويتعدّى بالهمزة فيقال‏:‏ أحياه اللّه واستحييته - بياءين - إذا تركته حيّاً فلم تقتله‏,‏ فالحي ضد الميت‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ الحي المتّصف بالحياة وهي صفّة توجب للموصوف بها أن يعلم ويقدر ظاهراً‏.‏

والعلاقة بين الميت والحيّ التّضاد‏.‏

ب - المحتضر‏:‏

3 - المحتضر‏:‏ هو من في النّزع أي أشرف على الموت يقال حضره الموت واحتضره‏:‏ أشرف فهو في النّزع‏.‏

والصّلة بين المحتضر والميت أنّ الاحتضار مقدّمة للموت‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالميت

أ - تقبيل وجه الميت‏:‏

4 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى جواز تقبيل وجه الميت لخبر «أنّه صلى الله عليه وسلم قبّل عثمان بن مظعون بعد موته»، ولما ثبت «أنّ أبا بكر رضي الله عنه قبّل وجه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعد موته»‏.‏

وذهب السبكي إلى استحباب ذلك لأهل الميت ويجوز لغيرهم‏,‏ وخصّ الشّافعيّة وجه الميت الصّالح‏,‏ أمّا غيره فيكره‏.‏

ب - تغميض عيني الميت‏:‏

5 - اتّفق الفقهاء على استحباب تغميض عيني الميت بعد ثبوت موته لما ورد عن أمّ سلمة قالت‏:‏ «دخل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شقّ بصره فأغمضه، ثمّ قال‏:‏ إنّ الروح إذا قبض تبعه البصر»‏.‏

وروى شدّاد بن أوسٍ قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر، فإنّ البصر يتبع الروح‏,‏ وقولوا خيراً فإنّ الملائكة تؤمّن على ما قال أهل الميت»‏.‏

ولأنّ الميت إذا كان مفتوح العينين فلم يغمض حتّى يبرد بقي مفتوحاً فيقبح منظره‏.‏

ويقول من يغمض الميت‏:‏ ‏"‏ بسم اللّه وعلى ملّة رسول اللّه ‏"‏‏.‏

وقال أحمد‏:‏ تغمض المرأة عينه إذا كانت ذات محرم له‏,‏ وقال‏:‏ يكره للحائض والجنب تغميضه وأن تقرباه‏.‏

ج - إخراج الحائض والنفساء والجنب من عند الميت‏:‏

6 - نصّ الحنفيّة على أنّه ينبغي إخراج النفساء والجنب من عند الميت وكذلك الحائض في رأي عندهم‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّه يندب لمن حضرته علامات الموت تجنب حائض ونفساء وجنب لأجل الملائكة‏,‏ وقال ابن حبيب‏:‏ يستحب ألّا تحضر الحائض ولا الكافرة، ولا يكون عنده وقربه غير طاهر‏.‏

ونصّ الحنابلة على أنّه يكره أن تقرب الحائض والجنب الميت لحديث‏:‏ «لا تدخل الملائكة بيتاً فيه جنب»‏.‏

‏(‏ر‏:‏ احتضار ف / 3‏)‏‏.‏

د - تلقين الميت بعد الموت‏:‏

7 - اختلف الفقهاء في تلقين الميت بعد موته‏:‏ فذهب بعضهم إلى أنّه لا بأس بتلقينه لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لقّنوا موتاكم لا إله إلّا اللّه»‏.‏

وذهب بعضهم إلى أنّه لا يلقّن‏.‏

انظر تفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏تلقين ف / 5، احتضار ف / 7‏)‏‏.‏

هـ - غسل الجنب والحائض الميت‏:‏

8 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى جواز أن يغسل الجنب والحائض الميت بلا كراهة لأنّ المقصود هو التّطهير‏,‏ وهو حاصل بالجنب والحائض‏,‏ ولأنّه لا يشترط في الغاسل الطّهارة‏.‏

وذهب المالكيّة إلى كراهة غسل الجنب للميت لأنّه يملك طهره، ولا يكره تغسيل الحائض لأنّه لا تملك طهرها‏.‏

وروي عن أبي يوسف أنّه كره للحائض الغسل لأنّها لو اغتسلت لنفسها لم تعتدّ به فكذا إذا غسَّلت‏.‏

و - شدّ لحيي الميت وتليين مفاصله‏:‏

9 - اتّفق الفقهاء على استحباب شدّ لحيي الميت بعصابة عريضة تربط فوق رأسه‏,‏ لئلّا يبقى فمه مفتوحاً‏,‏ فتدخله الهوام ويتشوّه خلقه ويدخل الماء عند غسله‏.‏

وكذلك اتّفق الفقهاء على استحباب تليين مفاصل الميت‏,‏ وذلك بردّ ساعده إلى عضده وساقه إلى فخذه وفخذه إلى بطنه‏,‏ ثمّ تمد وتلين أصابعه بأن تردّ إلى بطن كفّه ثمّ تمد تسهيلاً لغسله وتكفينه‏,‏ فإنّ في البدن بعد مفارقة الروح بقيّة حرارة فإذا ليّنت المفاصل حينئذٍ لانت وإلّا فلا يمكن تليينها‏.‏

وزاد الشّافعيّة أنّ تليين مفاصله تكون ولو بنحو دهن إن توقّف التّليين عليه ليسهل غسله‏.‏ وذهب الحنابلة إلى ترك تليين المفاصل إذا تعذّر ذلك لأنّه لا يؤمن أن تنكسر أعضاؤه وصيّر به ذلك إلى المثلة‏.‏

ز - توجيه الميت للقبلة‏:‏

10 - اتّفق الفقهاء على استحباب توجيه الميت إلى القبلة لأنّها أشرف الجهات‏,‏ ولكن اختلفوا في طريقة توجيه الميت إلى القبلة على أقوال‏:‏

فذهب الحنفيّة إلى أنّه يسن أن يوجّه المحتضر للقبلة على يمينه مثل توجيهه في القبر وجاز الاستلقاء على ظهره وقدماه إليها ولكن يرفع رأسه قليلاً ليتوجّه للقبلة‏,‏ وقيل‏:‏ يوضع كما تيسّر على الأصحّ وإن شقّ عليه ترك على حاله‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّه يستحب توجيهه للقبلة على يمينه‏,‏ فإن لم يمكن فعلى يساره‏,‏ فإن لم يمكن فعلى ظهره ورجلاه للقبلة‏,‏ فإن لم يمكن فعلى بطنه ورأسه لها‏,‏ وهذا بشرط أن يكون ذلك بعد شخوص بصره لا قبله لئلّا يفزعه ذلك‏.‏

وذهب الشّافعيّة في الصّحيح عندهم إلى أنّه يستحب توجيهه على جنبه الأيمن كما يوضع في اللّحد إلى القبلة فإن تعذّر وضعه على يمينه لضيق مكان أو لعلّة في جنبه أو غيرها فإنّه يوضع على جنبه الأيسر‏,‏ فإن تعذّر ألقي على قفاه ووجهه وأخمصاه للقبلة بأن يرفع رأسه قليلاً‏,‏ كأن يوضع تحت رأسه مرتفع ليتوجّه وجهه إلى القبلة‏.‏

ومقابل الصّحيح أنّ هذا الاستلقاء أفضل‏,‏ فإن تعذّر اضطجع على جنبه الأيمن‏,‏ فإن تعذّر وضع على جنبه الأيسر‏.‏

وللحنابلة في كيفيّة توجيه الميت للقبلة قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنّه يجعل على جنبه الأيمن وهو الصّحيح من المذهب‏.‏

والثّاني‏:‏ أن يكون مستلقياً على قفاه ويرفع رأسه قليلاً‏,‏ ليصير وجهه إلى القبلة دون السّماء‏.‏

وقال القاضي‏:‏ إن كان الموضع واسعاً فعلى جنبه‏,‏ وإلّا فعلى ظهره‏.‏ واشترط بعضهم أنّه لا يوجّه قبل تيقن موته‏,‏ والصّحيح من المذهب أنّ الأولى التّوجيه قبل ذلك‏.‏

ج - ستر بدن الميت‏:‏

11 - ذهب الفقهاء إلى استحباب ستر الميت حين الغسل على اختلاف بينهم في القدر الّذي يستر ويغطّى‏.‏

فذهب الحنفيّة إلى استحباب ستر الميت حين الغسل‏,‏ وأنّ القدر الواجب في السّتر هو ستر عورته الغليظة فقط على الظّاهر من الرّواية‏,‏ وقيل مطلقاً تستر عورته الغليظة والخفيفة‏.‏ وذهب المالكيّة إلى استحباب أن يستر الغاسل الميت من سرّته إلى ركبته إن كان الّذي يتولّى أمر الميت سيّداً أو زوجاً لكن إن كان الّذي يتولّى أمره أجنبيّاً فإنّه يجب ستر ما بين سرّته وركبته‏.‏

وذهب الشّافعيّة إلى استحباب ستر جميع بدنه بثوب خفيف بعد نزع ثيابه ما لم يكن محرماً‏,‏ ويجعل طرف الثّوب تحت رأسه وطرفه الآخر تحت رجليه لئلّا ينكشف‏,‏ واحترز بالثّوب الخفيف عن الثّقيل لأنّ الثّقيل يحميه فيغيّره وقد ورد عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت‏:‏ «سجّي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حين مات بثوب حبرة»‏.‏

أمّا المُحرِم فيستر منه ما يجب تكفينه منه‏.‏

وصرّح القليوبي بأنّه لا يغطّى رأس المحرم ولا وجه المحرمة ويغسل الميت ندباً في قميصٍ لأنّه أستر له‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إذا شرع في غسله وجب ستر ما بين سرّته وركبته لقوله صلى الله عليه وسلم لعليّ رضي الله عنه‏:‏ «لا تبرز فخذك‏,‏ ولا تنظرن إلى فخذ حي ولا ميتٍ»، وهذا في غير من سنه دون سبع سنين فلا بأس بغسله مجرّداً‏.‏

وقال القاضي‏:‏ السنّة أن يغسّل في قميصٍ رقيق ينزل الماء فيه ولا يمنع أن يصل إلى بدنه ويدخل يده في كمّ القميص فيمرّها على بدنه والماء يصب فإن كان القميص ضيّقاً فتق رأس الدّخاريص وأدخل يده منه‏.‏

ط - قراءة القرآن بعد موت الميت وقبل غسله‏:‏

12 - نصّ الحنفيّة والمالكيّة على أنّه يكره قراءة القرآن على الميت بعد موته وقبل غسله‏.‏ وذهب الحنابلة إلى أنّه يستحب أن يقرأ عند الميت سورة ‏(‏يس‏)‏ وكذا سورة الفاتحة‏.‏ وللتّفصيل ‏(‏ر‏:‏ قراءة ف / 17‏,‏ 18‏)‏‏.‏

ي - تغسيل الميت‏:‏

13 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ تغسيل المسلم واجب كفايةً‏.‏

وانظر حقيقته وحكمه‏,‏ ومن يغسله‏,‏ وكيفيّة تغسيله‏,‏ وما يتّصل بذلك من أحكام في مصطلح ‏(‏تغسيل الميت‏)‏‏.‏

ك - تكفين الميت‏:‏

14 - اتّفق الفقهاء على أنّ تكفين الميت بما يستره فرضٌ على الكفاية‏.‏

وانظر حقيقته وحكمه وكيفيّته في مصطلح ‏(‏تكفين‏)‏‏.‏

ل - حمل الميت‏:‏

15 - اتّفق الفقهاء على أنّ حمل الجنازة فرضٌ على الكفاية‏,‏ واختلفوا في كيفيّة حملها وعدد حامليها‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏جنائز ف / 11 - 13‏)‏‏.‏

م - دفن الميت‏:‏

16 - دفن الميت فرض كفاية إجماعاً إن أمكن‏.‏

انظر حقيقته وحكمه‏,‏ وأفضل مكان لدفنه‏,‏ والأحق بدفنه‏,‏ وكيفيّته ووقته‏,‏ وما يتّصل به من أحكام في مصطلح ‏(‏دفن‏)‏‏.‏

ن - نبش قبر الميت‏:‏

17 - اتّفق الفقهاء على منع نبش القبر إلّا لعذر وغرض صحيح‏,‏ ومن الأعذار الّتي تجيز نبش القبر كون الأرض مغصوبةً أو الكفن مغصوباً أو سقط مال في القبر‏.‏

وعندهم تفصيل في هذه الأعذار ينظر إليها في مصطلح ‏(‏قبر ف / 21‏,‏ ونبشٌ‏)‏‏.‏

س - نقل الميت‏:‏

18 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا يجوز نقل الميت من مكان إلى آخر بعد الدّفن مطلقاً‏.‏

وأمّا المالكيّة فيجوز عندهم نقل الميت قبل الدّفن وكذا بعده من مكان إلى آخر بشروط‏.‏ ينظر تفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏دفن ف / 4‏,‏ ونبشٌ‏)‏‏.‏

ع - قذف الميت‏:‏

19 - ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة إلى أنّه من قذف ميتاً أقيم عليه الحد‏.‏

واختلفوا فيمن له حق طلب إقامة الحدّ‏.‏

فذهب الحنفيّة إلى أنّ طلب إقامة الحدّ يرجع لمن يقع القدح في نسبه بسبب قذف الميت وهم الأصول والفروع وإن علوا أو سفلوا‏,‏ ولو كان الطّالب محجوباً أو محروماً عن الميراث بقتل أو رق أو كفر أو كونه ولد بنتٍ‏.‏ ولو مع وجود الأقرب أو عفوه أو تصديقه للقاذف للحوق العار بهم بسبب الجزئيّة‏,‏ أي كون الميت جزءًا منهم أو كونهم جزءًا منه‏.‏

ولو قال‏:‏ يا ابن الزّانيين وقد مات أبواه فعليه حد واحد‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّ من مات قبل حدّ قاذفه فلوارثه القيام به ولو منعه من الإرث مانع كرقّ وقتل وكفر إن كان قذفه في حياته‏.‏

وإن قذفه بعد موته فلوارثه القيام بحدّه للحقوق المعرّة له‏.‏

وأمّا الورثة الّذين يحق لهم المطالبة بالحدّ فهم‏:‏ ولد المقذوف ويشمل البنين والبنات وإن سفلوا‏,‏ وأب المقذوف وإن علا‏.‏

فمن قذف ميتاً كان لولده وإن سفل ولأبيه وإن علا أن يقوموا بذلك ومن قام منهم بذلك أخذه بحدّه وإن كان ثمّ من هو أقرب منه لأنّه عيب يلزمهم‏,‏ وليس للإخوة وسائر العصبة قيام مع هؤلاء فإن لم يكن من هؤلاء أحد فللعصبة القيام‏,‏ وللأخوات والجدّات القيام إلّا أن يكون له ولد‏.‏

فإن لم يكن لهذا المقذوف وارثٌ فليس للأجنبيّ أن يقوم بحدّه‏.‏

وذهب الشّافعيّة إلى أنّ من قذف ميتاً أقيم عليه الحد‏,‏ وطلب إقامة الحدّ للوارث إلّا أن يعفو‏,‏ ولو عفا وارث المقذوف مقابل مال يأخذه سقط الحد ولم يجب المال‏,‏ ولو عفا بعض الورثة فللباقي أن يستوفوا الحدّ على الأصحّ‏,‏ لأنّه عار‏,‏ والعار يلزم الواحد كما يلزم الجميع‏.‏ واختلف الشّافعيّة فيمن يرث حدّ القذف على أوجهٍ‏:‏

أصحها‏:‏ جميع الورثة كالمال والقصاص‏.‏

والثّاني‏:‏ جميعهم غير الزّوجين‏.‏

والثّالث‏:‏ رجال العصبات فقط لأنّه لدفع العار كولاية التّزويج‏.‏

والرّابع‏:‏ رجال العصبة سوى البنين كالتّزويج‏,‏ ثمّ من بعدهم للسلطان‏.‏

ولو قذف رجل مورّثه‏,‏ ومات المقذوف‏,‏ سقط عنه الحد إن كان حائزاً للإرث‏,‏ ولأنّ القذف لا يمنع الإرث بخلاف القتل‏.‏

ولو قذف ولد أباه فمات الأب وترك القاذف وابناً آخر فإنّ فيه الخلاف فيمن يرث الحدّ فإن قلنا‏:‏ إذا عفا بعض المستحقّين كان للآخر استيفاء الجميع فللابن الآخر استيفاء الحدّ بتمامه‏,‏ وإن قلنا يسقط الجميع فكذا هنا‏,‏ وإن قلنا‏:‏ يسقط نصيب العافي فللابن الآخر استيفاء نصف الحدّ‏.‏

وأمّا الحنابلة‏:‏ فقالوا إذا قذفت المرأة لم يكن لولدها المطالبة إذا كانت الأم في الحياة‏,‏ وإن قذفت وهي ميتة - مسلمةً كانت أو كافرةً حرّةً أو أمة - حدّ القاذف إذا طالب الابن وكان مسلماً حراً وهو المذهب لأنّه قدح في نسبه ولأنّه بقذف أمّه ينسبه إلى أنّه من زنا ولا يستحق إقامة الحدّ بطريق الإرث ولذلك تعتبر حصانته ولا تعتبر حصانة أمّه لأنّ القذف له‏.‏ وقال أبو بكر‏:‏ لا يجب الحد على قذف ميتة‏,‏ وكذلك تقاس الجدّة على الأمّ في الحياة والموت‏.‏

وأمّا إن قذف أباه أو جدّه أو أحداً من أقاربه غير أمّهاته بعد موته لم يجب الحد بقذفه في ظاهر كلام الخرقيّ لأنّه إنّما أوجب بقذف أمّه حقاً له لنفي نسبه لاحقاً للميت ولهذا لم يعتبر إحصان المقذوفة واعتبر إحصان الولد‏,‏ ومتى كان المقذوف من غير أمّهاته لم يتضمّن نفي نسبه فلم يجب الحد‏.‏

وإذا مات المقذوف ولم يطالب بالحدّ سقط الحد وإن كان قد طالب به فالصّحيح من المذهب أنّه لا يسقط وللورثة طلبه‏.‏

والحق في حدّ القذف لجميع الورثة‏,‏ حتّى لأحد الزّوجين على الصّحيح من المذهب ونصّ عليه الإمام أحمد‏.‏

وقال القاضي‏:‏ لهم سوى الزّوجين‏,‏ وقال في المغني‏:‏ هو للعصبة‏,‏ وقال ابن عقيل‏:‏ يرثه الإمام أيضاً في قياس المذهب عند عدم الوارث‏.‏

ولو عفا بعضهم حدّ للباقي كاملاً على الصّحيح من المذهب‏.‏

ف - حَلْق شعر الميت وقص ظفره‏:‏

20 - للفقهاء تفصيل في حكم حلق شعر الميت أو تسريحه أو ضفر شعر المرأة وكذا سائر شعر البدن كاللّحية والشّارب وشعر الإبط والعانة‏.‏

وينظر ذلك في مصطلح ‏(‏شعر وصوف ووبر ف / 4‏,‏ 5‏,‏ 6‏,‏ حلق ف / 14‏)‏‏.‏

كما اختلفوا في حكم تقليم أظفار الميت وللتّفصيل انظر مصطلح ‏(‏تغسيل الميت ف / 9‏)‏‏.‏

ص - تغسيل السّقط والصّلاة عليه ودفنه‏:‏

21 - السّقط هو الولد ذكراً كان أو أنثى يسقط قبل تمامه وهو مستبين الخلق‏,‏ وقد اتّفق الفقهاء على أنّه إذا استهلّ المولود غسل وصلّي عليه‏,‏ وفيما عدا ذلك خلاف ينظر في مصطلح ‏(‏جنين ف / 22‏)‏‏.‏

ق - إدخال الميت المسجد والصّلاة عليه فيه‏:‏

22 - ذهب الحنفيّة إلى كراهة الصّلاة على الميت في المسجد الجامع أو مسجد المحلّة وإدخاله فيه تحريماً وقيل تنزيهاً ورجّحه الكمال وذهب المالكيّة إلى الكراهة‏,‏ وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى جواز ذلك‏,‏ وللتّفصيل ينظر مصطلح ‏(‏جنائز ف / 38‏)‏‏.‏

ر - الصّلاة على القبر إذا دفن الميت قبل الصّلاة عليه‏:‏

23 - اختلف الفقهاء في الصّلاة على القبر إذا دفن الميت فيه قبل الصّلاة عليه‏.‏

وانظر تفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏جنائز ف / 37‏)‏‏.‏

ش - طهارة جسد الميت‏:‏

24 - ذهب عامّة الحنفيّة إلى أنّ الميت يتنجّس بالموت لما فيه من الدّم المسفوح كما يتنجّس سائر الحيوانات الّتي لها دم سائل بالموت وهذا هو الأظهر في المذهب‏.‏

وقد اختلف الحنفيّة هل نجاسته نجاسة خبث أو حدث ‏؟‏ فقيل‏:‏ إنّها نجاسة خبث وهو الأظهر‏,‏ فلو وقع في بئر قبل غسله نجّسها وكذلك لو حمل ميتاً قبل غسله وصلّى به لم تصحّ صلاته‏,‏ ولذلك إنّما يطهر الميت بالغسل كرامةً للمسلم‏.‏

أمّا الكافر فهو نجسٌ ولو بعد غسله فلو وقع كافر في بئر بعد غسله فإنّه ينجّس البئر‏.‏ وقيل‏:‏ هي نجاسة حدث قال في الفتح‏:‏ وقد روي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه‏:‏

«سبحان اللّه‏,‏ إنّ المؤمن لا ينجس حيّاً ولا ميتاً»‏,‏ فإن صحّ وجب ترجيح أنّه للحدث‏,‏ ولما روي عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «لا تنجّسوا موتاكم‏,‏ فإنّ المسلم لا ينجس حيّاً ولا ميتاً»‏.‏

وذهب محمّد بن شجاع الثّلجي من الحنفيّة إلى أنّ الآدميّ لا ينجس بالموت بتشرب الدّم المسفوح في أجزائه‏,‏ كرامةً له، لأنّه لو تنجس لما حكم بطهارته بالغسل كسائر الحيوانات الّتي حكم بنجاستها بالموت‏,‏ والآدمي يطهر بالغسل حتّى روي عن محمّد أنّ الميت لو وقع في البئر قبل الغسل يوجب تنجيس البئر‏,‏ ولو وقع بعد الغسل لا يوجب تنجسه فعلم أنّه لم يتنجّس بالموت ولكن وجب غسله للحدث‏,‏ لأنّ الموت لا يخلو عن سابقة حدث لوجود استرخاء المفاصل وزوال العقل‏,‏ والبدن في حقّ التّطهير لا يتجزّأ فوجب غسله كله‏.‏ وذهب المالكيّة في المعتمد والشّافعيّة في الأظهر‏,‏ والحنابلة في الصّحيح من المذهب والبلخي من الحنفيّة إلى أنّ ميتة الآدميّ ولو كافراً طاهرة‏,‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ‏}‏‏,‏ وقضيّة تكريمهم أن لا يحكم بنجاستهم بالموت‏,‏ ولخبر «لا تنجّسوا موتاكم فإنّ المؤمن لا ينجس حيّاً ولا ميتاً»، قال عياضٌ‏:‏ ولأنّ غسله وإكرامه يأبى تنجيسه‏,‏ إذ لا معنى لغسل الميتة الّتي هي بمنزلة العذرة‏.‏

وأمّا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ‏}‏ فالمراد نجاسة الاعتقاد أو أنّا نجتنبهم كالنّجاسة لا نجاسة الأبدان‏,‏ ولهذا ربط النّبي صلى الله عليه وسلم الأسير في المسجد‏,‏ وقد أحلّ اللّه طعام أهل الكتاب‏.‏

وقد نصّ المالكيّة والشّافعيّة على أنّ هذا الخلاف في غير أجساد الأنبياء لأنّ أجساد الأنبياء متّفق على طهارتها‏,‏ وألحق ابن العربيّ المالكي بهم الشّهداء‏.‏

وإنّما الخلاف في طهارة ميتة الآدميّ ونجاستها في المسلم والكافر‏.‏

فذهب بعض المالكيّة إلى نجاسة ميتة الآدميّ‏.‏

وقال ابن قدامة‏:‏ ويحتمل أن ينجس الكافر بموته لأنّ الخبر‏:‏ «المؤمن لا ينجس» إنّما ورد في المسلم ولا يصح قياس الكافر عليه ؛ لأنّه لا يصلّى عليه وليس له حرمة كحرمة المسلم‏.‏

حكم ما أبين من الآدميّ

25 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ ما أبين من الآدميّ يأخذ حكمه في القول بطهارته أو بنجاسته‏.‏

فذهب الحنفيّة في الصّحيح إلى أنّ شعر الآدميّ غير المنتوف طاهر بخلاف المنتوف فإنّه نجسٌ لما يحمل من دسومة‏.‏

وكذلك عظم الميت وعصبه فإنّهما طاهران على المشهور من المذهب‏,‏ وكذلك سن الميت على الظّاهر من المذهب فإنّه طاهر لأنّه لا دم فيها والمنجّس هو الدّم‏.‏

وكذلك ظفر الميت فإنّه طاهر إذا كان خالياً عن الدسومة‏.‏

وذهب المالكيّة في المعتمد عندهم إلى طهارة ما أبين من الآدميّ مطلقاً سواء كان في حال حياته أو بعد موته بناءً على المعتمد من طهارة ميتته‏,‏ وأمّا على القول الآخر في المذهب فما أبين منه نجسٌ مطلقاً‏.‏

وذهب الشّافعيّة إلى إلحاق ما انفصل من الآدميّ بميتته في الطّهارة‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ حكم أجزاء الآدميّ وأبعاضه حكم جملته سواء انفصلت في حياته أو بعد موته‏,‏ لأنّها أجزاء من جملته فكان حكمها كسائر الحيوانات الطّاهرة والنّجسة ولأنّها يصلّى عليها فكانت طاهرةً كجملته‏,‏ وذكر القاضي أنّها نجسة روايةً واحدةً لأنّها لا حرمة لها‏.‏

ت - غسل ما أبين من الآدميّ والصّلاة عليه‏:‏

26 - نصّ الشّافعيّة والحنابلة على أنّه إذا وجد بعض الميت غسل وصلّي عليه لأنّ عمر رضي الله عنه صلّى على عظام بالشّام‏,‏ وصلّى أبو عبيدة رضي الله عنه على رءوسٍ‏,‏ وصلّت الصّحابة رضي الله عنهم على يد عبد الرّحمن بن عتّاب بن أسيد ألقاها طائر بمكّة من وقعة الجمل‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ إذا وجد رأس آدمي أو أحد شقّيه لا يغسّل ولا يصلّى عليه بل يدفن إلّا أن يوجد أكثر من نصفه ولو بلا رأسٍ فإنّه يغسّل ويصلّى عليه‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ لا يغسّل دون ثلثي الجسد‏,‏ والمراد بالجسد ما عدا الرّأس‏,‏ فإذا وجد نصف الجسد أو أكثر منه ودون الثلثين مع الرّأس لم يغسل على المعتمد ولا يصلّى عليه أي يكره‏,‏ لأنّ شرط الغسل وجود الميت‏,‏ فإن وجد بعضه فالحكم للغالب ولا حكم لليسير وهو ما دون الثلثين‏.‏

والعلّة في ترك الصّلاة على ما دون الجلّ خوف الوقوع في المكروه وهو الصّلاة على غائب‏,‏ قال في التّوضيح لأنّا لا نخاطب بالصّلاة على الميت إلّا بشرط الحضور‏,‏ وحضور جلّه كحضور كلّه‏,‏ وحضور الأقلّ بمنزلة العدم‏.‏

‏(‏ر‏:‏ تغسيل الميت ف / 26‏)‏‏.‏

ث - تنازع الميت والحيّ الماء‏:‏

27 - اتّفق الفقهاء على أنّه إذا اجتمع ميت وجنب وحائضٌ ومحدثٌ وكان الماء ملكاً لأحدهم فهو أولى به لأنّه أحق بملكه‏,‏ وللفقهاء بعد ذلك تفصيل‏:‏

ذهب الحنفيّة إلى أنّه إذا كان الماء ملكاً لأحدهم فهو أولى به لأنّه أحق بملكه‏.‏

أمّا إذا كان الماء مباحاً فإنّ الجنب أولى بالماء من الحائض والمحدث وييمّم الميت ليصلّى عليه‏,‏ وكذا المرأة والمحدث ويقتديان به‏,‏ لأنّ الجنابة أغلظ من الحدث‏,‏ والمرأة لا تصلح إماماً‏.‏

وقيل في السّراج‏:‏ أنّ الميت أولى لأنّ غسله يراد للتّنظيف وهو لا يحصل بالتراب‏.‏

وعن الظّهيريّة أنّ الأوّل أصح‏,‏ وفي السّراج أيضاً‏:‏ لو كان الماء يكفي المحدث فقط كان أولى به لأنّه يرفع الحدث‏.‏

أمّا إذا كان الماء مشتركاً فينبغي لكلّ منهم أن يصرف نصيبه للميت حيث كان كل واحد لا يكفيه نصيبه‏,‏ ولا يمكن الجنب ولا غيره أن يستقلّ بالكلّ لأنّه مشغول بحصّة الميت‏,‏ وكون الجنابة أغلظ لا يبيح استعمال حصّة الميت فلم يكن الجنب أولى‏,‏ بخلاف ما لو كان الماء مباحاً فإنّه حيث أمكن به رفع الجنابة كان أولى‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّه إذا مات صاحب الماء ومعه شخص حيّ محدثٌ جنب أو غيره فإنّ الميت يقدّم على المحدث الحيّ لحقية الملك إلّا أن يخاف على الحيّ العطش فإنّه يكون حينئذٍ أحق من صاحبه وييمّم الميت حفظاً للنّفوس ويضمن قيمته للورثة‏.‏

أمّا لو كان الماء مشتركاً بين الميت والحيّ يقدّم الحي ولو لم يخف عطشاً لترجيح جانبه بالشّركة ويضمن قيمة نصيب الميت‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ إن اجتمع ميت وجنب وحائضٌ انقطع دمها وهناك ما يكفي أحدهما فإن كان لأحدهما كان صاحب الماء أحقّ به لأنّه محتاجٌ إليه لنفسه‏,‏ فلا يجوز له بذله لغيره‏,‏ فإن بذله للآخر وتيمّم لم يصحّ تيممه‏.‏

وإذا كان الماء لهما كانا فيه سواءً‏.‏

وإن كان الماء مباحاً أو لغيرهما وأراد أن يجود به على أحدهما فالميت أولى لأنّه خاتمة طهارته‏,‏ والجنب والحائض يرجعان إلى الماء ويغتسلان‏.‏

وإذا اجتمع ميت وحيّ على بدنه نجاسة والماء يكفي أحدهما ففيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنّ صاحب النّجاسة أولى لأنّه ليس لطهارته بدل ولطهارة الميت بدل وهو التّيمم فكان صاحب النّجاسة أحقّ بالماء‏,‏ وهذا هو المذهب الصّحيح‏.‏

والثّاني‏:‏ أنّ الميت أولى لأنّه خاتمة طهارته‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إذا اجتمع جنب وميت ومن عليها غسل حيض ومعهم ماء لا يكفي إلّا إحدهم‏,‏ فإن كان ملكاً لأحدهم فهو أحق به لأنّه يحتاج إليه لنفسه فلا يجوز له بذله لغيره سواء كان مالكه الميت أو أحد الحيّين‏.‏

وإن كان الماء لغيره وأراد أن يجود به على أحدهم فعن أحمد رحمه الله روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ الميت أحق به لأنّ غسله خاتمة طهارته‏,‏ فيستحب أن تكون طهارته كاملةً‏,‏ والحي يرجع إلى الماء فيغتسل‏,‏ ولأنّ القصد بغسل الميت تنظيفه ولا يحصل بالتّيمم‏,‏ والحي يقصد بغسله إباحة الصّلاة ويحصّل ذلك بالتراب‏.‏

والثّانية‏:‏ الحي أولى لأنّه متعبّد بالغسل مع وجود الماء‏,‏ والميت قد سقط الفرض عنه بالموت‏.‏ واختار هذا الخلّال‏.‏

وإن وجدوا الماء في مكان فهو للأحياء‏,‏ لأنّ الميت لا يجد شيئاً‏,‏ وإن كان للميت ففضلت منه فضلة فهو لورثته‏,‏ فإن لم يكن له وارثٌ حاضر فللحيّ أخذه بقيمته لأنّ في تركه إتلافه‏.‏

وقال بعض الحنابلة‏:‏ ليس له أخذه لأنّ مالكه لم يأذن له فيه إلّا أن يحتاج إليه للعطش فيأخذه بشرط الضّمان‏.‏

نهاية الجزء التاسع والثلاثون